تفسیر ابن عربى(رحمه من الرحمن) سوره القصص
(۲۸) سوره القصص مکیّه
بسم اللّه الرّحمن الرّحیم
[سوره القصص (۲۸): الآیات ۱ الى ۷]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ
طسم (۱) تِلْکَ آیاتُ الْکِتابِ الْمُبِینِ (۲) نَتْلُوا عَلَیْکَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ (۳) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِی الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِیَعاً یَسْتَضْعِفُ طائِفَهً مِنْهُمْ یُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ یَسْتَحْیِی نِساءَهُمْ إِنَّهُ کانَ مِنَ الْمُفْسِدِینَ (۴)
وَ نُرِیدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّهً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِینَ (۵) وَ نُمَکِّنَ لَهُمْ فِی الْأَرْضِ وَ نُرِیَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما کانُوا یَحْذَرُونَ (۶) وَ أَوْحَیْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِیهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَیْهِ فَأَلْقِیهِ فِی الْیَمِّ وَ لا تَخافِی وَ لا تَحْزَنِی إِنَّا رَادُّوهُ إِلَیْکِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِینَ (۷)
[سلطان الوحى]
لا یتصور المخالف إذا کان الکلام وحیا، فإن سلطانه أقوى من أن یقاوم، و کذلک فعلت أم موسى و لم تخالف، مع أن الحاله تؤذن أنها ألقته فی الهلاک، و لم تخالف و لا ترددت و لا حکمت علیها البشریه بأن إلقاءه فی الیم فی تابوت من أخطر الأشیاء، فدل ذلک على أن الوحی أقوى سلطانا فی نفس الموحى إلیه من طبعه الذی هو عین نفسه، و أرشد الحق تعالى فی وحیه هذا إلى أم موسى علیه السلام عند الخوف أن تلقیه من یدها و تخرجه عن حفظها، فإن اللّه تعالى یتولاه بحفظه و یبقیه برحمته، أ لا ترى إلى قوله تعالى (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّیَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَیْها أَتاها أَمْرُنا) الآیه، فعند زعم القدره علیها أخذت و زالت.
[سوره القصص (۲۸): الآیات ۸ الى ۹]
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِیَکُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما کانُوا خاطِئِینَ (۸) وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَیْنٍ لِی وَ لَکَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ یَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا یَشْعُرُونَ (۹)
«وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَیْنٍ لِی وَ لَکَ» فبه قرت عینها بالکمال الذی حصل لها، و کان قره عین لفرعون بالإیمان الذی أعطاه اللّه عند الغرق «لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ یَنْفَعَنا» و کذلک وقع، فإن اللّه نفعهما به علیه السلام.
[سوره القصص (۲۸): آیه ۱۰]
وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ کادَتْ لَتُبْدِی بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَکُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ (۱۰)
«وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً» من الهم الذی أصابها، فإن اللّه عصمه من فرعون.
[سوره القصص (۲۸): الآیات ۱۱ الى ۱۲]
وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّیهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لا یَشْعُرُونَ (۱۱) وَ حَرَّمْنا عَلَیْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّکُمْ عَلى أَهْلِ بَیْتٍ یَکْفُلُونَهُ لَکُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ (۱۲)
«وَ حَرَّمْنا عَلَیْهِ الْمَراضِعَ» ثم إن اللّه حرم علیه المراضع حتى أقبل على ثدی أمه فأرضعته، لیکمل اللّه لها سرورها به.
[سوره القصص (۲۸): آیه ۱۳]
فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ کَیْ تَقَرَّ عَیْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لکِنَّ أَکْثَرَهُمْ لا یَعْلَمُونَ (۱۳)
«فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ کَیْ تَقَرَّ عَیْنُها» بتربیته و تشاهد انتشاءه فی حجرها «وَ لا تَحْزَنَ».
[سوره القصص (۲۸): الآیات ۱۴ الى ۱۵]
وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى آتَیْناهُ حُکْماً وَ عِلْماً وَ کَذلِکَ نَجْزِی الْمُحْسِنِینَ (۱۴) وَ دَخَلَ الْمَدِینَهَ عَلى حِینِ غَفْلَهٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِیها رَجُلَیْنِ یَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِیعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِی مِنْ شِیعَتِهِ عَلَى الَّذِی مِنْ عَدُوِّهِ فَوَکَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَیْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّیْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِینٌ (۱۵)
[الادب فى نسبه الافعال]
إذا ساعد الشیطان على الإنسان القدر السابق بالفعل فوقع منه الفعل، و رأى أن ذلک من الشیطان مؤمنا مصدقا کما قال موسى علیه السلام «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّیْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِینٌ» فعمل، تاب إثر و عقیب وقوع الفعل، و التوبه هنا الندم، فإنه معظم أرکان التوبه، فقد ورد أن الندم توبه، فإن الحضور مع الإیمان عند وقوع المخالفه یرد ذلک العمل حیا بحیاه الحضور، یستغفر لفاعله إلى یوم القیامه، فالشیطان فی هذه الحاله یکون قد سعى فی تضعیف الخیر للعبد و هو لا یشعر، فإن الحرص أعماه،
و یحور الوبال و إثم تلک المعصیه علیه، و هذا من مکر اللّه تعالى بإبلیس، فإنه لو علم أن اللّه یسعد العبد بتلک اللمه من الشیطان سعاده خاصه ما ألقى إلیه شیئا من ذلک، و الأدب یقضی بأمر کلی أن ما حسن عرفا و شرعا نسبه العبد للحق، فأظهر الحق فیه و جلاه للبصائر و الأبصار، و ما قبح عرفا و شرعا نسبه إلى نفسه إن شاء و أظهر نفسه فیه و جلّاه، أو نسبه إلى الشیطان إن شاء و أظهر عین الشیطان فیه و جلّاه.
[سوره القصص (۲۸): الآیات ۱۶ الى ۱۷]
قالَ رَبِّ إِنِّی ظَلَمْتُ نَفْسِی فَاغْفِرْ لِی فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ (۱۶) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَیَّ فَلَنْ أَکُونَ ظَهِیراً لِلْمُجْرِمِینَ (۱۷)
الظهیر المعین، و هو خبیر بمن هو له نصیر.
[سوره القصص (۲۸): الآیات ۱۸ الى ۲۸]
فَأَصْبَحَ فِی الْمَدِینَهِ خائِفاً یَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِی اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ یَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّکَ لَغَوِیٌّ مُبِینٌ (۱۸) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ یَبْطِشَ بِالَّذِی هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ یا مُوسى أَ تُرِیدُ أَنْ تَقْتُلَنِی کَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِیدُ إِلاَّ أَنْ تَکُونَ جَبَّاراً فِی الْأَرْضِ وَ ما تُرِیدُ أَنْ تَکُونَ مِنَ الْمُصْلِحِینَ (۱۹) وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِینَهِ یَسْعى قالَ یا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ یَأْتَمِرُونَ بِکَ لِیَقْتُلُوکَ فَاخْرُجْ إِنِّی لَکَ مِنَ النَّاصِحِینَ (۲۰) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً یَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِی مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِینَ (۲۱) وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْیَنَ قالَ عَسى رَبِّی أَنْ یَهْدِیَنِی سَواءَ السَّبِیلِ (۲۲)
وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْیَنَ وَجَدَ عَلَیْهِ أُمَّهً مِنَ النَّاسِ یَسْقُونَ وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَیْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُکُما قالَتا لا نَسْقِی حَتَّى یُصْدِرَ الرِّعاءُ وَ أَبُونا شَیْخٌ کَبِیرٌ (۲۳) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّی لِما أَنْزَلْتَ إِلَیَّ مِنْ خَیْرٍ فَقِیرٌ (۲۴) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِی عَلَى اسْتِحْیاءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِی یَدْعُوکَ لِیَجْزِیَکَ أَجْرَ ما سَقَیْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَ قَصَّ عَلَیْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِینَ (۲۵) قالَتْ إِحْداهُما یا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَیْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِیُّ الْأَمِینُ (۲۶) قالَ إِنِّی أُرِیدُ أَنْ أُنْکِحَکَ إِحْدَى ابْنَتَیَّ هاتَیْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِی ثَمانِیَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِکَ وَ ما أُرِیدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَیْکَ سَتَجِدُنِی إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِینَ (۲۷)
قالَ ذلِکَ بَیْنِی وَ بَیْنَکَ أَیَّمَا الْأَجَلَیْنِ قَضَیْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَیَّ وَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَکِیلٌ (۲۸)
لما علم موسى علیه السلام قدر النساء و منزلتهن استأجر نفسه فی مهر امرأه عشر سنین، و أعنی بالنساء الأنوثه الساریه فی العالم، و کانت فی النساء أظهر.
[سوره القصص (۲۸): آیه ۲۹]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْکُثُوا إِنِّی آنَسْتُ ناراً لَعَلِّی آتِیکُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَهٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّکُمْ تَصْطَلُونَ (۲۹)
فلو نظرت فیما أنتج اللّه من الکلام لموسى علیه السلام، حین خرج ساعیا لأهله لما کانوا یحتاجون إلیه من النار، فبسعیه على عیاله و استفراغه ناداه الحق و کلمه فی عین حاجته و هی النار، فإنه علیه السلام قد استفرغه طلب النار لأهله، و هو الذی أخرجه لما أمر به من السعی على العیال، و الأنبیاء أشد الناس مطالبه لأنفسهم للقیام بأوامر الحق، فلم یکن فی نفسه سوى ما خرج إلیه، فلما أبصر حاجته و هی النار التی لاحت له من الشجره من جانب الطور الأیمن ناداه الحق من عین حاجته بما یناسب الوقت
[إذا جئت إلى الحق فلا تترک منک مع الکون شیئا]
– إشاره- إن سرت بأهلک، أی إذا جئت إلى الحق فلا تترک منک مع الکون شیئا، بل احضر بجمعیتک، فلا یکون لک خاطر تفرقه أبدا، بل یکون مجموع الهم فی دخولک على اللّه تعالى، و إذا خرجت من عند الحق اترک الکون عنده، و إخراج بالحق إلى الحق، فإنک إن سرت بأهلک آنست نارا، و کلمک العزیز جهارا.
[سوره القصص (۲۸): آیه ۳۰]
فَلَمَّا أَتاها نُودِیَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَیْمَنِ فِی الْبُقْعَهِ الْمُبارَکَهِ مِنَ الشَّجَرَهِ أَنْ یا مُوسى إِنِّی أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِینَ (۳۰)
فثبته الخطاب الأول بالنداء لأنه خرج على أن یقتبس نارا أو یجد على النار هدى، و هو قوله: (لَعَلِّی آتِیکُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أی من یدله على حاجته، فکان منتظرا للنداء، قد هیأ سمعه و بصره لرؤیه النار، و سمعه لمن یدله علیها فالشجره ظهر النور فیها للمکلّم موسى علیه السلام، فإنه کان طلب موسى علیه السلام النار لأهله، لیصلح به عیشهم،
و نودی فی شجره وادیه، من التشاجر، و هو مقام تداخل المقامات، لأنه مشهد للکلام، و الکلام متداخل المعانی على کثرتها، فأشبه الشجره، فنودی من الشجره و فی النار لأنها مطلوبه، فلا یتغیر علیه الحال، فیسرع بالإجابه من غیر انتقال من حال إلى حال، فإن النار تراءت له متعلقه بالشجره، و أهل الکشف الذین یرون الوجود للّه بکل صوره، جعلوا الشجره هی صوره المتکلم، کما کان الحق لسان العبد و سمعه و بصره بهویته لا بصفته، کما یظهر فی صوره تنکر و یتحول إلى صوره تعرف، و هو هو لا غیره، إذ لا غیر، فما تکلم من الشجره إلا الحق فالحق صوره شجره،
و ما سمع من موسى إلا الحق فالحق صوره موسى من حیث هو سامع، کما هو الشجره من حیث هو متکلم، و الشجره شجره و موسى موسى لا حلول، لأن الشیء لا یحل فی ذاته، فإن الحلول یعطی ذاتین، و هنا إنما هو حکمان- مسئله- إن الملائکه إذا تکلم اللّه بالوحی کأنه سلسله على صفوان تصعق الملائکه، و رسول اللّه صلّى اللّه علیه و سلم کان إذا أنزل علیه الوحی کسلسله على صفوان یصعق، و هو أشد الوحی علیه، فینزل جبریل على قلبه فیفنى عن عالم الحس و یرغو و یسجى إلى أن یسرى عنه،
و إنه لینزل علیه الوحی فی الیوم الشدید البرد فیتفصد جبینه عرقا، و موسى صلّى اللّه علیه و سلم کلمه اللّه تکلیما بارتفاع الوسائط، و ما صعق و لا زال عن حسه، و قال و قیل له، و هذا المقام أعظم من مقام الوحی بوساطه الملک، فهذا الملک یصعق عند الکلام،
و هذا أکرم البشر یصعق عند نزول الروح بالوحی، و هذا موسى لم یصعق و لا جرى علیه شیء مع ارتفاع الوسائط، و صعق لذلک الجبل؟ اعلم أن موسى لما جاءه النداء بأمر مناسب لم ینکره و ثبت، فلما علم أن المنادی ربه و قد صح له الثبوت، و جاء النداء من خارج لا من نفسه ثبت لیوفی الأدب حقه فی الاستماع، فإنه لکل نوع من التجلی حکم، و حکم نداء هذا التجلی التهیؤ لسماع ما یأتی به، فلم یصعق و لا غاب عن شهوده، فإنه خطاب مقید بجهه، مسموع بأذن، و خطاب تفصیلی، فالمثبت للإنسان على حسه و شهود محسوسه قلبه المدبر لجسده،
و لم یکن لهذا الکلام الإلهی الموسوی توجه على القلب، فلیس للقلب هنا إلا ما یتلقاه من سمعه و بصره و قواه حسبما جرت به العاده، فلم یتعد الحال حکمه فی موسى علیه السلام، و أما أمر محمد صلّى اللّه علیه و سلم فهو نزول قلبی و خطاب إجمالی کسلسله على صفوان، فاجعل بالک لهذا التشبیه، فاشتغل القلب بما نزل إلیه لیتلقاه، فغاب عن تدبیر بدنه، فسمی ذلک غشیا و صعقا، و کذلک الملائکه.
[سوره القصص (۲۸): الآیات ۳۱ الى ۳۴]
وَ أَنْ أَلْقِ عَصاکَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ کَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ یُعَقِّبْ یا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّکَ مِنَ الْآمِنِینَ (۳۱) اسْلُکْ یَدَکَ فِی جَیْبِکَ تَخْرُجْ بَیْضاءَ مِنْ غَیْرِ سُوءٍ وَ اضْمُمْ إِلَیْکَ جَناحَکَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِکَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّکَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ إِنَّهُمْ کانُوا قَوْماً فاسِقِینَ (۳۲) قالَ رَبِّ إِنِّی قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ یَقْتُلُونِ (۳۳) وَ أَخِی هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّی لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِی رِدْءاً یُصَدِّقُنِی إِنِّی أَخافُ أَنْ یُکَذِّبُونِ (۳۴)
هارون علیه السلام نبی بحکم الأصل، و أخذ الرساله بسؤال أخیه موسى علیه السلام
[- إشاره- لا تطلب ردءا سواه]
– إشاره- لا تطلب ردءا سواه، فمن توکّل على اللّه کفاه، اطلب الردء من جنسک، فإنه قد شاء أن یکون أقوى لنفسک- فلا تطلب ردءا سواه، أی معینا، و اطلب الردء من جنسک، لخور الطبع، فإذا کنت فی مقام لا تقوى فیه على ما یقتضیه المقام الأول، فانزل إلى المقام الثانی، فهو بمنزله قوله علیه السلام: [اعقلها و توکل] لیکون القلب مطمئنا.
[سوره القصص (۲۸): الآیات ۳۵ الى ۳۸]
قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَکَ بِأَخِیکَ وَ نَجْعَلُ لَکُما سُلْطاناً فَلا یَصِلُونَ إِلَیْکُما بِآیاتِنا أَنْتُما وَ مَنِ اتَّبَعَکُمَا الْغالِبُونَ (۳۵) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآیاتِنا بَیِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَ ما سَمِعْنا بِهذا فِی آبائِنَا الْأَوَّلِینَ (۳۶) وَ قالَ مُوسى رَبِّی أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَکُونُ لَهُ عاقِبَهُ الدَّارِ إِنَّهُ لا یُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (۳۷) وَ قالَ فِرْعَوْنُ یا أَیُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَکُمْ مِنْ إِلهٍ غَیْرِی فَأَوْقِدْ لِی یا هامانُ عَلَى الطِّینِ فَاجْعَلْ لِی صَرْحاً لَعَلِّی أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّی لَأَظُنُّهُ مِنَ الْکاذِبِینَ (۳۸)
لما کان عند فرعون علم باللّه، لکن الرئاسه و حبها غلب علیه فی دنیاه قال «ما عَلِمْتُ لَکُمْ» و لم یقل (ما علمت للعالم) لما علم أن قومه یعتقدون فیه أنه إله لهم، فأخبر بما هو الأمر علیه و صدق فی إخباره بذلک، فإنه علم أنه لیس فی علمهم أن لهم إلها غیر فرعون، لذلک قال «مِنْ إِلهٍ غَیْرِی» أی فی اعتقادکم، و هو على أی حال قد تکبر على اللّه،
فإنه ادعى الربوبیه لنفسه و نفاها عن اللّه بقوله لقومه (أَنَا رَبُّکُمُ الْأَعْلى) و ما فی علمی أن أحدا یقع منه هذا القول و هو یجوع و یغوط و أمثال هذا إلا فرعون لمّا استخف قومه «فَأَوْقِدْ لِی یا هامانُ عَلَى الطِّینِ فَاجْعَلْ لِی صَرْحاً لَعَلِّی أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى» و لم یقل إلى اللّه الذی یدعو إلیه موسى علیه السلام، فإن اللّه عصم لفظ اللّه أن یطلق على أحد و ما عصم إطلاق إله فجعل قوله «ما عَلِمْتُ لَکُمْ مِنْ إِلهٍ غَیْرِی» ظنا بعد شک أو إثباتا فی قوله: «لَعَلِّی أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّی لَأَظُنُّهُ مِنَ الْکاذِبِینَ».
[سوره القصص (۲۸): الآیات ۳۹ الى ۴۱]
وَ اسْتَکْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِی الْأَرْضِ بِغَیْرِ الْحَقِّ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَیْنا لا یُرْجَعُونَ (۳۹) فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِی الْیَمِّ فَانْظُرْ کَیْفَ کانَ عاقِبَهُ الظَّالِمِینَ (۴۰) وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّهً یَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ یَوْمَ الْقِیامَهِ لا یُنْصَرُونَ (۴۱)
فإن قیل کیف جعلهم أئمه و قد قال لإبراهیم علیه السلام لما سأله (وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی) قال تعالى له (لا یَنالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ)؟
[أن من نصبه الناس إماما فأئمتهم رجلان: ظالم و عادل]
فاعلم أن من نصبه الناس إماما فأئمتهم رجلان: ظالم و عادل، فالعادل هو الذی یقوم فیهم بسنه نبیهم و هدیه، و یسلک بهم أوامر الحق المشروع لهم من عند اللّه، و هم أئمه الهدى الذین یأمرون بالقسط من الناس فهم ممن ینال عهد اللّه، و طائفه أخرى نصبهم الناس فظلموا و ضلوا و أضلوا و عدلوا عن الحق، فهؤلاء الذین لم ینالوا عهد اللّه بحکم تعیینهم بالأمر بالتقدم، و لکن قال تعالى فیهم «وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّهً یَدْعُونَ إِلَى النَّارِ» بقضائنا لا بأمرنا «وَ یَوْمَ الْقِیامَهِ لا یُنْصَرُونَ».
[سوره القصص (۲۸): الآیات ۴۲ الى ۴۴]
وَ أَتْبَعْناهُمْ فِی هذِهِ الدُّنْیا لَعْنَهً وَ یَوْمَ الْقِیامَهِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِینَ (۴۲) وَ لَقَدْ آتَیْنا مُوسَى الْکِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَکْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَهً لَعَلَّهُمْ یَتَذَکَّرُونَ (۴۳) وَ ما کُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِیِّ إِذْ قَضَیْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَ ما کُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِینَ (۴۴)
فإنه لیس حکم من شاهد الأمور حکم من لم یشاهدها إلا بالإعلام، فللعیان حال لا یمکن أن یعرفه إلا صاحب العیان، کما أن للعلم حالا لا یعرفه إلا أولو العلم.
[سوره القصص (۲۸): الآیات ۴۵ الى ۴۶]
وَ لکِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَیْهِمُ الْعُمُرُ وَ ما کُنْتَ ثاوِیاً فِی أَهْلِ مَدْیَنَ تَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِنا وَ لکِنَّا کُنَّا مُرْسِلِینَ (۴۵) وَ ما کُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَیْنا وَ لکِنْ رَحْمَهً مِنْ رَبِّکَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِیرٍ مِنْ قَبْلِکَ لَعَلَّهُمْ یَتَذَکَّرُونَ (۴۶)
«وَ ما کُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَیْنَا» موسى علیه السلام.
[سوره القصص (۲۸): الآیات ۴۷ الى ۵۵]
وَ لَوْ لا أَنْ تُصِیبَهُمْ مُصِیبَهٌ بِما قَدَّمَتْ أَیْدِیهِمْ فَیَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَیْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آیاتِکَ وَ نَکُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ (۴۷) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِیَ مِثْلَ ما أُوتِیَ مُوسى أَ وَ لَمْ یَکْفُرُوا بِما أُوتِیَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَ قالُوا إِنَّا بِکُلٍّ کافِرُونَ (۴۸) قُلْ فَأْتُوا بِکِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ (۴۹) فَإِنْ لَمْ یَسْتَجِیبُوا لَکَ فَاعْلَمْ أَنَّما یَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَیْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الظَّالِمِینَ (۵۰) وَ لَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ یَتَذَکَّرُونَ (۵۱)
الَّذِینَ آتَیْناهُمُ الْکِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ یُؤْمِنُونَ (۵۲) وَ إِذا یُتْلى عَلَیْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا کُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِینَ (۵۳) أُولئِکَ یُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَیْنِ بِما صَبَرُوا وَ یَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَهِ السَّیِّئَهَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ یُنْفِقُونَ (۵۴) وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَکُمْ أَعْمالُکُمْ سَلامٌ عَلَیْکُمْ لا نَبْتَغِی الْجاهِلِینَ (۵۵)
«وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَکُمْ أَعْمالُکُمْ سَلامٌ عَلَیْکُمْ لا نَبْتَغِی الْجاهِلِینَ» لما یئسوا من إرشادهم و فلاحهم سلموا الأمر إلیه، و اشتغلوا بما یزلفهم لدیه، فأعرضوا شرعا و سلموا حقیقه، فأثنى الحق تعالى علیهم لنقتدی بهم و نعرف أنا إذا سلکنا مسلکهم کان لنا نصیب من ذلک الثناء.
[سوره القصص (۲۸): آیه ۵۶]
إِنَّکَ لا تَهْدِی مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لکِنَّ اللَّهَ یَهْدِی مَنْ یَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِینَ (۵۶)
لقد حرص رسول اللّه صلّى اللّه علیه و سلم بعمه أبی طالب أن یؤمن فلم یفعل، و نفذت فیه سابقه علم اللّه و حکمه، و قال تعالى لنبیه صلّى اللّه علیه و سلم «إِنَّکَ لا تَهْدِی مَنْ أَحْبَبْتَ» المقصود بالهدى هنا الهدى التوفیقی، و ما توفیقی إلا باللّه، لا الهدى بمعنى البیان، فالهدى التوفیقی «وَ لکِنَّ اللَّهَ یَهْدِی مَنْ یَشاءُ» و هو الذی یعطی السعاده لمن قام به، فهو اختصاص من اللّه (یَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ یَشاءُ «وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِینَ»* أی بالقابلین للتوفیق
[- تحقیق- لا یصح أن یکون کلام الإنسان مؤثرا فی الأشیاء مطلقا فی هذه الدار، بل محله الجنان]
– تحقیق- لا یصح أن یکون کلام الإنسان مؤثرا فی الأشیاء مطلقا فی هذه الدار، بل محله الجنان، فإنه لا أکبر من محمد صلّى اللّه علیه و سلم و قد قال لعمه أبی طالب: قل لا إله إلا اللّه، فما ظهرت عن نشأه أمره (لا إله إلا اللّه) فی محل المأمور، و إن کان على بصیره فیه، و لکنه مأمور أن یأمر، و هو حریص على الأمه، فکان قوله تعالى: «إِنَّکَ لا تَهْدِی مَنْ أَحْبَبْتَ» أی إنک لا تقدر على من ترید أن تجعله محلا لظهور ما ترید إنشاءه فیه أن یکون محلا لوجود إنشائک فیه، فقد کان صلّى اللّه علیه و سلم یقول لعمه: قل لا إله إلا اللّه فی أذنی أشهد لک بها عند اللّه؛ و هو یأبى.
[سوره القصص (۲۸): آیه ۵۷]
وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَکَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَ وَ لَمْ نُمَکِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً یُجْبى إِلَیْهِ ثَمَراتُ کُلِّ شَیْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لکِنَّ أَکْثَرَهُمْ لا یَعْلَمُونَ (۵۷)
«أَ وَ لَمْ نُمَکِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً یُجْبى إِلَیْهِ ثَمَراتُ کُلِّ شَیْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا» لا من الجهات، فإن الحق ما أضاف الرزق إلى غیره مع قوله تعالى: «ثَمَراتُ کُلِّ شَیْءٍ» فعمّ، و لم یقل ذلک فی غیر مکه «وَ لکِنَّ أَکْثَرَهُمْ لا یَعْلَمُونَ» نسبوها إلى الجهات و ما ذکروا الحق.
[سوره القصص (۲۸): الآیات ۵۸ الى ۶۰]
وَ کَمْ أَهْلَکْنا مِنْ قَرْیَهٍ بَطِرَتْ مَعِیشَتَها فَتِلْکَ مَساکِنُهُمْ لَمْ تُسْکَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِیلاً وَ کُنَّا نَحْنُ الْوارِثِینَ (۵۸) وَ ما کانَ رَبُّکَ مُهْلِکَ الْقُرى حَتَّى یَبْعَثَ فِی أُمِّها رَسُولاً یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِنا وَ ما کُنَّا مُهْلِکِی الْقُرى إِلاَّ وَ أَهْلُها ظالِمُونَ (۵۹) وَ ما أُوتِیتُمْ مِنْ شَیْءٍ فَمَتاعُ الْحَیاهِ الدُّنْیا وَ زِینَتُها وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَیْرٌ وَ أَبْقى أَ فَلا تَعْقِلُونَ (۶۰)
احذر من فتنه الحیاه الدنیا و زینتها، و فرق بین زینه اللّه و زینه الشیطان و زینه الحیاه الدنیا، إذا جاءت الزینه مهمله غیر منسوبه فإنک لا تدری من زیّنها لک، فانظر ذلک فی موضع آخر و اتخذه دلیلا على ما انبهم علیک، مثل قوله (زَیَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) و مثل قولهم (أ فمن زین له سوء عمله) و لم یذکر من زینه، فتستدل على من زیّنه من نفس العمل، فزینه اللّه غیر محرمه، و زینه الشیطان محرمه، و زینه الدنیا ذات وجهین: وجه إلى الإباحه و الندب، و وجه إلى التحریم، و الحیاه الدنیا وطن الابتلاء، فجعلها اللّه حلوه خضره، و استخلف فیها عباده، فناظر کیف یعملون فیها،
بهذا جاء الخبر النبوی، فاتق فتنتها و میّز زینتها و قل رب زدنی علما، «وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَیْرٌ وَ أَبْقى» و ما عند اللّه إلا العالم فهو خیر و أبقى، من حیث أنه أعطى العلم بنفسه للعالم به، أی من حیث أن العلم تابع للمعلوم، و هو حکم لا یزال باقیا، فإن العلم تابع للمعلوم فی الحادث و القدیم، فأعیان العالم محفوظون فی خزائنه عنده، و خزائنه علمه، و مختزنه نحن، فنحن أثبتنا له حکم الاختزان، لأنه ما علمنا إلا منا،
[- تحقیق- الزاهد فی الدنیا]
– تحقیق- الزاهد فی الدنیا مال إلى قوله: «وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَیْرٌ وَ أَبْقى» و العارف مال إلى قوله تعالى: (وَ اللَّهُ خَیْرٌ وَ أَبْقى).
[سوره القصص (۲۸): الآیات ۶۱ الى ۶۸]
أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِیهِ کَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَیاهِ الدُّنْیا ثُمَّ هُوَ یَوْمَ الْقِیامَهِ مِنَ الْمُحْضَرِینَ (۶۱) وَ یَوْمَ یُنادِیهِمْ فَیَقُولُ أَیْنَ شُرَکائِیَ الَّذِینَ کُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (۶۲) قالَ الَّذِینَ حَقَّ عَلَیْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِینَ أَغْوَیْنا أَغْوَیْناهُمْ کَما غَوَیْنا تَبَرَّأْنا إِلَیْکَ ما کانُوا إِیَّانا یَعْبُدُونَ (۶۳) وَ قِیلَ ادْعُوا شُرَکاءَکُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ یَسْتَجِیبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ کانُوا یَهْتَدُونَ (۶۴) وَ یَوْمَ یُنادِیهِمْ فَیَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِینَ (۶۵)
فَعَمِیَتْ عَلَیْهِمُ الْأَنْباءُ یَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا یَتَساءَلُونَ (۶۶) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ یَکُونَ مِنَ الْمُفْلِحِینَ (۶۷) وَ رَبُّکَ یَخْلُقُ ما یَشاءُ وَ یَخْتارُ ما کانَ لَهُمُ الْخِیَرَهُ سُبْحانَ اللَّهِ وَ تَعالى عَمَّا یُشْرِکُونَ (۶۸)
[ «وَ رَبُّکَ یَخْلُقُ»]
«وَ رَبُّکَ یَخْلُقُ» أی یقدّر و یوجد «ما یَشاءُ» لو کان وجود العالم لذات الحق لا للنسب الإلهیه لکان العالم مساوقا للحق فی الوجود، و لیس کذلک، فالنسب حکم للّه أزلا، و هی تطلب تأخر وجود العالم عن وجود الحق، فیصح حدوث العالم، و لیس ذلک إلا لنسبه المشیئه التی هی مفتاح الغیب، و سبق العلم بوجوده، فکان وجود العالم مرجّحا على عدمه، و الوجود المرجح لا یساوق الوجود الذاتی الذی لا یتصف بالترجیح، فکل ما سوى الحق عرض زائل و غرض مائل و إن اتصف بالوجود،
فهو فی نفسه فی حکم المعدوم «وَ یَخْتارُ» کذا فعل سبحانه فی جمیع الموجودات، فاختار من کل أمر فی کل جنس أمرا ما، کما اختار من الأسماء الحسنى کلمه اللّه، و اختار من الناس الرسل، و اختار من العباد الملائکه، و اختار من الأفلاک العرش، و اختار من الأرکان الماء، و اختار من الشهور رمضان، و اختار من العبادات الصوم، و اختار من القرون قرن النبی صلّى اللّه علیه و سلم،
و اختار من أیام الأسبوع یوم الجمعه، و اختار من أحوال السعاده فی الجنه الرؤیه، و اختار من الأحوال الرضى، و اختار من الأذکار لا إله إلا اللّه، و اختار من الکلام القرآن، و اختار من سور القرآن یس، و اختار من أی القرآن آیه الکرسی،
و اختار من قصار المفصل: قل هو اللّه أحد، و اختار من أدعیه الأزمنه دعاء عرفه، و اختار من المراکب البراق، و اختار من الملائکه الروح، و اختار من الألوان البیاض، و اختار من الأکوان الاجتماع، و اختار من الإنسان القلب، و اختار من الأحجار الحجر الأسود، و اختار من البیوت البیت المعمور، و اختار من الأشجار السدره، و اختار من النساء مریم و آسیه، و اختار من الرجال محمدا صلّى اللّه علیه و سلم، و اختار من الکواکب الشمس،
و اختار من الحرکات الحرکه المستقیمه، و اختار من النوامیس الشریعه المنزله، و اختار من البراهین البراهین الوجودیه، و اختار من الصور الصوره الآدمیه، لذلک أبرزها على الصوره الإلهیه، و اختار من الأنوار ما یکون معه النظر، و اختار من النقیضین الإثبات، و من الضدین الوجود، و اختار الرحمه على الغضب،
و اختارمن أحوال أفعال الصلاه السجود، و من أقوالها ذکر اللّه، و اختار من أصناف الإرادات النیه، و التحقیق أنه ما ثمّ حثاله و لا کناسه فإن ربک یخلق ما یشاء و یختار، و المختار هو المصطفى، فالنفوس نفایس، فیختار الأنفس و یبقی النفیس، فهذا ما کان من اختیار اللّه
[الجبر و الاختیار]
– الوجه الأول- «ما کانَ لَهُمُ الْخِیَرَهُ» بل هی للّه، و اللّه فعال لما یرید، فنفى أن تکون لهم الخیره، و عندنا أن [ما] هنا اسم، و هو فی موضع نصب على أنه مفعول بقوله: و یختار الذی کان لهم الخیره، یعنی فیه، فإذا علم العبد ذلک سلّم الحکم فیه للّه و استسلم، و کان بحکم وقت ما یمضیه اللّه فیه، لا بحکم ما یختاره لنفسه فی المنشط و المکره، و یرى أن الکل له فیه خیر، فیعامله اللّه فی کل ذلک بخیر، فإن کان وقته یعطی نعمه- و کان عقده مع اللّه مثل هذا- رزقه الشکر علیها و القیام بحق اللّه فیها و أعین علیها، و إن کان بلاء رزق الصبر علیه و الرضا به و جعل اللّه له مخرجا من حیث لا یحتسب، فإذا اقتضى الحق أمرا و کان له بک عنایه أجراه علیک و رزقک القیام بحقه-
الوجه الثانی- لا ینبغی للعبد أن یکون له اختیار مع سیده قال تعالى: «وَ رَبُّکَ یَخْلُقُ ما یَشاءُ وَ یَخْتارُ ما کانَ لَهُمُ الْخِیَرَهُ» فیما یختاره لهم، فلیس لهم أن یختاروا، بل یقفون عند المراسم الشرعیه، فإن الشارع هو اللّه تعالى- تحقیق الجبر و الاختیار- العبد مجبور فی اختیاره، و مع أن اللّه فاعل مختار فإن ذلک من أجل قوله: و یختار، و قوله: و لو شئنا، و لا یفعل إلا ما سبق به علمه، و تبدل العلم محال، و ما رأیت أحدا تفطن لهذا القول الإلهی، فإن معناه فی غایه البیان، و لشده وضوحه خفی، فإنه سر القدر، و من وقف على هذه المسأله لم یعترض على اللّه فی کل ما یقضیه و یجریه على عباده و فیهم و منهم، و لهذا قال: (لا یُسْئَلُ عَمَّا یَفْعَلُ وَ هُمْ یُسْئَلُونَ) فالعبد مجبور فی اختیاره الذی ینسب إلیه، و هو أصل یشمل کل موجود، لا أحاشی موجودا من موجود- نسبه الاختیار إلى الحق تعالى- یستحیل عندنا أن ینسب الجواز إلى اللّه تعالى حتى یقال:
یجوز أن یغفر اللّه لک و یجوز أن لا یغفر اللّه لک، و یجوز أن یخلق و یجوز أن لا یخلق، هذا على اللّه محال، لأنه عین الافتقار إلى المرجح لوقوع أحد الجائزین، و ما ثمّ إلا اللّه، و أصحاب هذا المذهب قد افتقروا إلى ما التزموه من هذا الحکم إلى إثبات الإراده حتى یکون الحق یرجح بها، و لا خفاء بما فی هذا المذهب من الغلط، فإنه یرجع الحق محکوما علیه بما هو زائد على ذاته، و هو عین ذات أخرى، و إن لم یقل فیها صاحب هذا المذهب إن تلک الذات الزائده عین الحق و لا غیر عینه، فالذی نقول به: إن هذه العین المخلوقه من کونها ممکنه تقبل الوجود و تقبل العدم، فجائز أن تخلق فتوجد، و جائز أن لا تخلق فلا توجد، فإذا وجدت فبالمرجّح و هو اللّه، و إذا لم توجد فبالمرجّح و هو اللّه، یستقیم الکلام و یکون الأدب مع اللّه أتم،
بل هو الواجب أن یکون الأمر کما قلنا، و أما احتجاجهم بقوله: (لَوْ شاءَ اللَّهُ)* و (لَوْ أَرادَ اللَّهُ) فهو علیهم هذا الاحتجاج لا لهم، لزومیه أن لو حرف امتناع لامتناع و لو لا حرف امتناع لوجود، فالإمکان للممکن هو الحکم الذی أظهر الاختیار فی المرجّح و الذی عند المرجّح أمر واحد، و هو أحد الأمرین لا غیر، فما ثمّ بالنظر إلى الحق إلا أحدیه محضه لا یشوبها اختیار، أ لا تراه یقول تعالى: لو شاء کذا لکان کذا؛ فما شاء فما کان ذلک، فنفى عن نفسه تعلق المشیئه، فنفى الکون عن ذلک المذکور، فالاختیار تعلق خاص للذات أثبته الممکن لإمکانه فی القبول لأحد الأمرین على البدل، و لو لا معقولیه هذین الأمرین و معقولیه القبول من الممکن ما ثبت للإراده و لا للاختیار حکم، فإن المشیئه الإلهیه ما عندها إلا أمر واحد فی الأشیاء،
و لا تزال الأشیاء على حکم واحد معیّن من الحکمین، فمشیئه الحق فی الأمور عین ما هی الأمور علیه فزال الحکم، فإن المشیئه إن جعلتها خلاف عین الأمر فإما أن تتبع الأمر و هو محال، و إما أن یتبعها الأمر، و هو محال، و بیان ذلک أن الأمر هو أمر لنفسه کان ما کان، فهو لا یقبل التبدیل، فهو غیر مشاء بمشیئه لیست عینه، فالمشیئه عینه، فلا تابع و لا متبوع، فتحفظ من الوهم، فمحال على اللّه الاختیار فی المشیئه، لأنه محال علیه الجواز، لأنه محال أن یکون للّه مرجح یرجح له أمرا دون أمر، فهو المرجح لذاته، فالمشیئه أحدیه التعلق لا اختیار فیها، و لهذا لا یعقل الممکن أبدا إلا مرجّحا، و لذلک أقول بالحکم الإرادی لکنی لا أقول بالاختیار، فإن الخطاب بالاختیار الوارد إنما ورد من حیث النظر إلى الممکن معرى عن علته و سببیته
[- نصیحه- لا یثبت العبد لنفسه ما نفاه الحق]
– نصیحه- لا یثبت العبد لنفسه ما نفاه الحق عنه، و یختار ما لم یختره له الحق.
[سوره القصص (۲۸): الآیات ۶۹ الى ۷۰]
وَ رَبُّکَ یَعْلَمُ ما تُکِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما یُعْلِنُونَ (۶۹) وَ هُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِی الْأُولى وَ الْآخِرَهِ وَ لَهُ الْحُکْمُ وَ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ (۷۰)
هذا هو التوحید الثالث و العشرون فی القرآن،
[توحید الاختیار]
و هو توحید الاختیار (وَ رَبُّکَ یَخْلُقُ ما یَشاءُ وَ یَخْتارُ) و هو من توحید الهویه، فإن الدلیل یعطی أن لا یکون فی العالم تفاضل، و لا مختار یفضل عند اللّه غیره من حیث نسبه العالم إلى اللّه، فإن نسبته واحده، و رأینا الأمر على غیر هذا خرج، و فی القرآن کثیر من تفضیل کل جنس بعضه على بعض، حتى القرآن و هو کلام اللّه یفضل على سائر الکتب المنزله و هی کلام اللّه، و القرآن نفسه یفضل بعضه على بعض مع نسبته إلى اللّه أنه کلامه بلا شک، فآیه الکرسی سیده آی القرآن، و هی قرآن، فعلمنا من هذا أن الحکمه التی یقتضیها النظر العقلی لیست بصحیحه، و أن حکمه اللّه فی الأمور هی الحکمه الصحیحه التی لا تعقل، و إن کانت لا تعلم فما تجهل، لکن لا تعیّن بمجرد فکر و لا نظر، فلما رأینا التفاضل و الاختیار وقع فی العالم حتى فی الأذکار الإلهیه المشروعه کما ذکرنا، علمنا أن ثمّ أمرا معقولا ما هو عین أعیان الکائنات،
فإذا بذلک عین المشیئه، فیها ظهر هذا التفضیل فی الواحد، و التفضیل فی المتساوی، و الواحد لا یتصف بالتفضیل، و المتساوی لا ینعت بالتفضیل، فعلمنا أن سر اللّه مجهول لا یعلمه إلا هو، فوجدناه توحید الاختیار فی حضره السر «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِی الْأُولى» و هو حمد الإجمال «وَ الْآخِرَهِ» و هو حمد التفصیل، فتمیزت المحامد فی العین الواحده فکان حمدها عینها «وَ لَهُ الْحُکْمُ وَ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ» أی الحکم و هو القضاء، فالضمیر فی «إِلَیْهِ» یعود على الحکم، فإنه أقرب مذکور،
فلا یعود على الأبعد و یتعدى الأقرب إلا بقرینه حال، هذا هو المعلوم فی اللسان الذی أنزل به القرآن فالقضاء الذی له المضی فی الأمور هو الحکم الإلهی على الأشیاء بکذا، و القدر ما یقع بوجوده فی موجود معین المصلحه المتعدیه منه إلى غیر ذلک الموجود، فالقضاء یحکم على القدر، و القدر لا حکم له فی القضاء، بل حکمه فی المقدر لا غیر بحکم القضاء، فالقاضی حاکم و المقدّر مؤقت، و لما أوجد سبحانه کتابین من کونه سبحانه خلق من کل شیء زوجین، فالقضاء و هو الحکم للکتاب الأول و هو الأم، و یطلبه حکم الکتاب الثانی و هو القدر الذی به تقوم الحجه، «وَ لَهُ الْحُکْمُ» بالکتاب الأول «وَ إِلَیْهِ» إلى هذا الکتاب «تُرْجَعُونَ».
[سوره القصص (۲۸): الآیات ۷۱ الى ۷۳]
قُلْ أَ رَأَیْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَیْکُمُ اللَّیْلَ سَرْمَداً إِلى یَوْمِ الْقِیامَهِ مَنْ إِلهٌ غَیْرُ اللَّهِ یَأْتِیکُمْ بِضِیاءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ (۷۱) قُلْ أَ رَأَیْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَیْکُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى یَوْمِ الْقِیامَهِ مَنْ إِلهٌ غَیْرُ اللَّهِ یَأْتِیکُمْ بِلَیْلٍ تَسْکُنُونَ فِیهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (۷۲) وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَکُمُ اللَّیْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْکُنُوا فِیهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ (۷۳)
«وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَکُمُ اللَّیْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْکُنُوا فِیهِ» فأعاد الضمیر على اللیل «وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» یرید فی النهار، فأضمر لما یتضمنه النهار غالبا من الحرکات فی المعاش و قوام النفوس و مصالح الخلق و تنفیذ الأوامر و إظهار الصنائع و إقامه المصنوعات فی نشأتها و تحسین هیئاتها، و إن کان الضمیران یعودان على المعنى المقصود، فقد یعمل الصانع باللیل و یبیع و یشتری باللیل، کما أنه ینام أیضا و یسکن بالنهار، و لکن الغالب فی الأمور هو المعتبر.
[سوره القصص (۲۸): الآیات ۷۴ الى ۷۵]
وَ یَوْمَ یُنادِیهِمْ فَیَقُولُ أَیْنَ شُرَکائِیَ الَّذِینَ کُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (۷۴) وَ نَزَعْنا مِنْ کُلِّ أُمَّهٍ شَهِیداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَکُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما کانُوا یَفْتَرُونَ (۷۵)
«فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما کانُوا یَفْتَرُونَ» فعلموا أنّهم کانوا من الذین لا یعلمون.
[سوره القصص (۲۸): آیه ۷۶]
إِنَّ قارُونَ کانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَیْهِمْ وَ آتَیْناهُ مِنَ الْکُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَهِ أُولِی الْقُوَّهِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا یُحِبُّ الْفَرِحِینَ (۷۶)
«إِنَّ اللَّهَ لا یُحِبُّ الْفَرِحِینَ»
[الحزن]
– الوجه الأول- هذا لیس نهیا من اللّه تعالى و إنما حکى اللّه نهی قوم قارون له، و هو فرح خاص من شأن النفوس أن تفرح به، و أن اللّه لا یحب الفرح بذلک الفرح، و من فرح بهذا الأمر المعیّن مثل جمعه المال الذی یترکه بالموت فی الدنیا و لا یقدمه عاد فرحه بذلک ترحا، فحزن لفرحه على قدر فرحه، فإن کان عظیما عظم حزنه، و إن کان دون ذلک کان الحزن و الترح بحسبه- الوجه الثانی- الحزن إذا فقد من القلب فی الدنیا خرب لحصول ضده، إذ لا یخلو، و الدار الدنیا لا تعطی الفرح لما فیه من نفی المحبه الإلهیه عمن قام به، فلا یزال الحزن دائما أبدا، و هو مقام مستصحب للعبد ما دام مکلفا و فی الآخره ما لم یدخل الجنه، فإنه لیس فی الوسع الإمکانی تحصیل جمله الأمر، فلا بد من فوت فلا بد من حزن.
الحزن مرکبه صعب و غایته | ذهابه فولّی اللّه من حزنا | |
قلب الحزین هنا تقوى قواعده | هناک و الغرض المقصود منک هنا | |
دار التکالیف دار ما بها فرح | فاللّه لیس یحب الفارح اللسنا | |
[سوره القصص (۲۸): آیه ۷۷]
وَ ابْتَغِ فِیما آتاکَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَهَ وَ لا تَنْسَ نَصِیبَکَ مِنَ الدُّنْیا وَ أَحْسِنْ کَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَیْکَ وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِی الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا یُحِبُّ الْمُفْسِدِینَ (۷۷)
[ «وَ أَحْسِنْ کَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَیْکَ»]
«وَ أَحْسِنْ کَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَیْکَ» الإحسان الذی یسمى به العبد محسنا هو أن یعبد اللّه کأنه یراه، أی یعبده على المشاهده، و إحسان اللّه هو مقام رؤیته عباده فی حرکاتهم و تصرفاتهم، فشهوده لکل شیء هو إحسانه، فإنه بشهوده یحفظه من الهلاک، فکل حال ینتقل فیه العبد فهو من إحسان اللّه، إذ هو الذی نقله تعالى،
و لهذا سمی الإنعام إحسانا، فإنه لا ینعم علیک بالقصد إلا من یعلمک، و من کان علمه عین رؤیته فهو محسن على الدوام، فإنه یراک على الدوام لأنه یعلمک دائما، و لما کان سعی الإنسان فی حق الغیر إنما یسعى لنفسه فی نفس الأمر، لذا أمر بالإحسان، فما زاد على ما یقوتک و یقوت من کلفک اللّه السعی علیه مما فتح اللّه به علیک فأوصله إنعاما منک إلى من شئت،
ممن تعلم منه أنه یستعمله فی طاعه اللّه، فإن جهلت فأوصله إلى من شئت، فإنک لن تخیب من فائدته من کونک منعما بما سمی ملکا لک، فأنت فیه کربّ النعمه، فأنت نائبه و خلیفته، و قد رزق النبات و الحیوان و الطائع و العاصی، فکن أنت کذلک، و تحرى الطائع جهد استطاعتک، فإن ذلک أوفر لحظک و أعلى، و فی حقک أولى و أثنى «وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِی الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا یُحِبُّ الْمُفْسِدِینَ» الفساد هنا المراد به تغییر الحکم الإلهی، لا تغییر العین و لا إبدال الصوره.
[سوره القصص (۲۸): الآیات ۷۸ الى ۸۳]
قالَ إِنَّما أُوتِیتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِی أَ وَ لَمْ یَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَکَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّهً وَ أَکْثَرُ جَمْعاً وَ لا یُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (۷۸) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِی زِینَتِهِ قالَ الَّذِینَ یُرِیدُونَ الْحَیاهَ الدُّنْیا یا لَیْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِیَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِیمٍ (۷۹) وَ قالَ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَیْلَکُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَیْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ لا یُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (۸۰) فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ فَما کانَ لَهُ مِنْ فِئَهٍ یَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ ما کانَ مِنَ المُنْتَصِرِینَ (۸۱) وَ أَصْبَحَ الَّذِینَ تَمَنَّوْا مَکانَهُ بِالْأَمْسِ یَقُولُونَ وَیْکَأَنَّ اللَّهَ یَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ یَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَیْنا لَخَسَفَ بِنا وَیْکَأَنَّهُ لا یُفْلِحُ الْکافِرُونَ (۸۲)
تِلْکَ الدَّارُ الْآخِرَهُ نَجْعَلُها لِلَّذِینَ لا یُرِیدُونَ عُلُوًّا فِی الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَهُ لِلْمُتَّقِینَ (۸۳)
«تِلْکَ الدَّارُ الْآخِرَهُ» یرید دار السعاده، فإن فی الآخره منزل شقاوه و منزل سعاده، فالدار الآخره هنا الجنه خاصه دون النار «نَجْعَلُها» ای نملکها ملکا «لِلَّذِینَ لا یُرِیدُونَ عُلُوًّا فِی الْأَرْضِ وَ لا فَساداً» سواء حصل لهم ذلک المراد أو لم یحصل، فقد أرادوه و حصل فی نفوسهم، فإن الأرض قد جعلها اللّه ذلولا و العبد هو الذلیل، و الذله لا تقتضی العلو، فمن جاوز قدره هلک،
فلیس للعبد أن یتصف بأوصاف سیده لا فی حضرته و لا عند إخوانه من العبید و إن ولاه علیهم، فالرب رب إلى غیر نهایه، و العبد عبد إلى غیر نهایه، فإن الصفات النفسیه لا تکون مراده للموصوف فیها، فمن علا بغیره و لم یکن له حافظ یحفظ علیه علوه سقط و قوتل، فالعالی من أعلى اللّه منزلته، و لما کانت الرفعه من اللّه- الذی له العلو الذاتی- حفظ على کل من أعلى اللّه منزلته علوه، و من علا بنفسه من الجبارین و المتکبرین قصمه اللّه و أخذه للکبریاء الذی کان علیه فی نفسه، و لهذا قال: «وَ الْعاقِبَهُ لِلْمُتَّقِینَ»، أی عاقبه العلو الذی علا به من أراد علوا فی الأرض یکون للمتقین، أی یعطیهم اللّه العلو فی المنزله فی الدنیا و الآخره،
فأما فی الآخره فأمر لازم لا بد منه، لأن وعده صدق و کلامه حق، و الدار الآخره محل تمیز المراتب و تعیین مقادیر الخلق عند اللّه و منزلتهم منه تعالى، فلا بد من علو المتقین یوم القیامه، و أما فی الدنیا فإنه کل من تحقق صدقه فی تقواه و زهده، فإن نفوس الجبارین و المتکبرین تتوفر دواعیهم إلى تعظیمه، لکونهم ما زاحموهم فی مراتبهم، فأنزلهم ما حصل فی نفوسهم من تعظیم المتقین عن علوهم و قصدوا خدمتهم و التبرک بهم، و انتقل ذلک العلو الذی ظهروا به إلى هذا المتقی، و کان عاقبه العلو للمتقی و الجبار لا یشعر،
و یلتذ الجبار إذا قیل فیه إنه قد تواضع و نزل إلى هذا المتقی، فیتخیل الجبار أن المتقی هو الأسفل و أن الجبار نزل إلیه، بل علو الجبار انتقل إلى المتقی من حیث لا یشعر، و نزل الجبار تحت علو هذا المتقی، و لو سئل المتقی عن علوه ما وجد عنده منه شیء، فثبت أن العلو فی الإنسان إنما هو تحققه بعبودیته، و عدم خروجه و اتصافه بما لیس له بحقیقه، فاحذر یا ولی أن ترید علوا فی الأرض فإن من أراده أراد الولایه،
و قال علیه السلام: [إنها یوم القیامه حسره و ندامه]، و الزم الخمول و إن أعلى اللّه کلمتک فما أعلى إلا الحق، و إن رزقک الرفعه فی قلوب الخلق، فذلک إلیه عزّ و جل، و الذی یلزمک التواضع و الذله و الانکسار، فإنه إنما أنشأک من الأرض فلا تعلو علیها فإنها أمک، و من تکبر على أمه فقد عقّها، و راقب اللّه فیما أعطاک، من رفعه فی الأرض، بولایه و تقدّم تخدم من أجله و یغشى بابک و یلزم رکابک، فلا تبرح ناظرا لعبودیتک و أصلک، و اعلم أن تلک الرفعه إنما هی للرتبه و المنصب لا لذاتک، فالذی أوصیک به أنک لا ترید علوا فی الأرض، و إن أعطاک اللّه لا تطلب أنت من اللّه إلا أن تکون فی نفسک صاحب ذله و مسکنه و خشوع.
[سوره القصص (۲۸): آیه ۸۴]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَهِ فَلَهُ خَیْرٌ مِنْها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّیِّئَهِ فَلا یُجْزَى الَّذِینَ عَمِلُوا السَّیِّئاتِ إِلاَّ ما کانُوا یَعْمَلُونَ (۸۴)
«مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَهِ فَلَهُ خَیْرٌ مِنْها» و هو عشر أمثالها «وَ مَنْ جاءَ بِالسَّیِّئَهِ فَلا یُجْزَى الَّذِینَ عَمِلُوا السَّیِّئاتِ إِلَّا ما کانُوا یَعْمَلُونَ» قال صلّى اللّه علیه و سلم: [إنما هی أعمالکم ترد علیکم].
[سوره القصص (۲۸): الآیات ۸۵ الى ۸۶]
إِنَّ الَّذِی فَرَضَ عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لَرادُّکَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّی أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَ مَنْ هُوَ فِی ضَلالٍ مُبِینٍ (۸۵) وَ ما کُنْتَ تَرْجُوا أَنْ یُلْقى إِلَیْکَ الْکِتابُ إِلاَّ رَحْمَهً مِنْ رَبِّکَ فَلا تَکُونَنَّ ظَهِیراً لِلْکافِرِینَ (۸۶)
«فَلا تَکُونَنَّ ظَهِیراً لِلْکافِرِینَ» أی معینا للکافرین.
[سوره القصص (۲۸): الآیات ۸۷ الى ۸۸]
وَ لا یَصُدُّنَّکَ عَنْ آیاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَیْکَ وَ ادْعُ إِلى رَبِّکَ وَ لا تَکُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِکِینَ (۸۷) وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ کُلُّ شَیْءٍ هالِکٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُکْمُ وَ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ (۸۸)
[وحده الوجود]
تفسیر هذه الآیه من وجوه، و ذلک راجع إلى الضمیر فی قوله تعالى: «إِلَّا وَجْهَهُ» فإنه من وجه یعود على الشیء، و من وجه یعود على الحق، فمن الوجه الذی یعود فیه الضمیر على الحق یقول تعالى: «وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» نهى تعالى أن یدعو مع اللّه إلها، فنکّر المنهی عنه، إذ لم یکن ثمّ، إذ لو کان ثمّ لتعین، و لو تعین لم یتنکر، فدل على أنه من دعا مع اللّه إلها آخر فقد نفخ فی غیر ضرم،
و استسمن ذا ورم، و کان دعاؤه لحما على وضم، لیس له متعلق یتعین، و لا حق یتضح و یتبین، فکان مدلول دعائه العدم المحض، فلم یبق إلا من له الوجود المحض «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» «کُلُّ شَیْءٍ هالِکٌ» فکل شیء یتخیل فیه أنه شیء هالک فی عین شیئیته عن نسبه الألوهیه إلیه لا عن شیئیته «إِلَّا وَجْهَهُ» فوجه الحق باق، و هو ذو الجلال و الإکرام و الآلاء الجسام، فالحق الخالص من کان فی ذاته یعلم فلا یجهل، و یجهل فلا یحاط به علما،
فعلم من حیث أنه لا یحاط به علما، و جهل من حیث أنه لا یحاط به علما، فعلم من حیث جهل، فالعلم به عین الجهل به، فإذا علمنا أن الحقیقه واحده دون أن تنسب إلى قدیم أو حدیث، نقول: جعل اللّه نفسه عین کل شیء بقوله تعالى:
«کُلُّ شَیْءٍ هالِکٌ إِلَّا وَجْهَهُ» لأن السبحات له، فهی مهلکه، و المهلک لا یکون هالکا، فکل شیء هو موجود تشاهده حسا و عقلا لیس بهالک، لأن وجه الشیء حقیقته، فما فی الوجود إلا اللّه، فما فی الوجود إلا الخیر و ان تنوعت الصور، فکل ما ظهر فما هو إلا هو، لنفسه ظهر، فما یشهده أمر و لا یکثّره غیر، و لذلک قال: «لَهُ الْحُکْمُ وَ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ» أی من یعتقد أن کل شیء جعلناه هالکا، و ما عرف ما قصدناه إذا رآه ما یهلک، و یرى بقاء عینه مشهودا له دنیا و آخره،
علم ما أردنا بالشیء الهالک، و أن کل شیء لم یتصف بالهلاک فهو وجهی، فعلم أن الأشیاء لیست غیر وجهی فإنها لم تهلک، فرد حکمها إلی، فهذا معنى قوله: «وَ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ» و هو معنى لطیف یخفى على من لم یستظهر القرآن، فالعالم لم یزل مفقود العین هالکا بالذات فی حضره إمکانه، و أحکامه یظهر بها الحق لنفسه بما هو ناظر من حقیقه حکم ممکن آخر، فالعالم هو الممد بذاته ما یظهر فی الکون من الموجودات، و لیس إلا الحق لا غیره، و بعباره أخرى «لَهُ الْحُکْمُ» و هو ما ظهر فی عین الأشیاء، ثم قال: «وَ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ» أی مردکم من کونکم أغیارا إلیّ، فیذهب حکم الغیر، فالأحکام فی الحق صور العالم کله، ما ظهر منه و ما یظهر،
و الأحکام منه و لهذا قال: «لَهُ الْحُکْمُ» ثم یرجع الکل إلى أنه عینه، فهو الحاکم بکل حکم فی کل شیء حکما ذاتیا لا یکون إلا هکذا، فسمى نفسه بأسمائه، فحکم علیه بها، و سمى ما ظهر به من الأحکام الإلهیه فی أعیان الأشیاء لیمیز بعضها عن بعض، فأعیان العالم لا یقال: إنها عین الحق و لا غیر الحق، بل الوجود کله حق، و لکن من الحق ما یتصف بأنه مخلوق، و منه ما یوصف بأنه غیر مخلوق، لکنه کل موجود، فإنه موصوف بأنه محکوم علیه بکذا، فالکل محکوم علیه،
کما حکمنا على کل شیء بالهلاک، و حکمنا على وجهه بالاستثناء من حکم الهلاک، و من ذلک یکون وجه الشیء حقیقته، فالشیء هنا ما یعرض لهذه الذات، فإن کان للعارض وجه فما یهلک فی نفسه، و إنما یهلک بنسبته إلى ما عرض له، فکل شیء و هو جمیع صور العالم «هالِکٌ» موصوف بالهلاک یعنی من حیث صوره، فهو هالک بالصوره للاستحالات، لأن هالک خبر المبتدأ الذی هو «کُلُّ شَیْءٍ» أی کل ما ینطلق علیه اسم شیء، فهو هالک فی حال اتصافه بالوجود، کما هو هالک فی حال اتصافه بالهلاک الذی هو العدم، فلا یزال کل شیء هالک کما لم یزل، لم یتغیر علیه نعت و لا تغیر على الوجود نعت، و الموصوف بأنه موجود موجود، و الموصوف بأنه معدوم معدوم، فإن وصف الممکن بالوجود فهو مجاز لا حقیقه، لأن الحقیقه تأبى أن یکون موجودا، فإن العدم للممکن ذاتی، أی من حقیقه ذاته أن یکون معدوما «إِلَّا وَجْهَهُ» الاستثناء هنا استثناء منقطع،
و الضمیر فی وجهه یعود على الشیء، و وجهه ذاته و عینه و کونه و حقیقته، فهی شیئیه ذاته، و هی المستثناه و لا بد، لأن الحقائق لا تتصف بالهلاک، و إنما یتصف بالهلاک الأمور العوارض للحقائق من نسبه بعضها إلى بعض، فکل شیء من صور العالم هالک من حیث صورته، إلا من حقائقه فلیس بهالک، و لا یتمکن أن یهلک،
فهو غیر هالک من حیث وجهه و حقیقته، فتختلف علیه الأحکام باختلاف الصور، فما ثمّ إلا هلاک و إیجاد فی عین واحده، و مثال ذلک للتقریب، أن صوره الإنسان إذا هلکت و لم یبق لها فی الوجود أثر، لم تهلک حقیقته التی یمیزها الحد، و هی عین الحد له، فنقول: الإنسان حیوان ناطق، و لا نتعرض لکونه موجودا أو معدوما، فإن هذه الحقیقه لا تزال له و إن لم تکن له صوره فی الوجود، فالحقائق فی العلم معقولات، و هی للحق معلومات، و للحق و لأنفسها معقولات، و لا وجود لها فی الوجود الوجودی و لا فی الوجود الإمکانی، فیظهر حکمها فی الحق فتنسب إلیه و تسمى أسماء إلهیه، فینسب إلیها من نعوت الأزل ما ینسب إلى الحق،
و تنسب أیضا إلى الخلق بما یظهر من حکمها فیه، فینسب إلیها من نعوت الحدوث ما ینسب إلى الخلق، فهی الحادثه القدیمه، و الأبدیه الأزلیه، فالعالم إن نظرت حقیقته وجدته عرضا زائلا، أی فی حکم الزوال، و هو قوله تعالى: «کُلُّ شَیْءٍ هالِکٌ إِلَّا وَجْهَهُ» و قال رسول اللّه صلّى اللّه علیه و سلم: [أصدق بیت قالته العرب قول لبید: ألا کل شیء ما خلا اللّه باطل] یقول ما له حقیقه یثبت علیها من نفسه، فما هو موجود إلا بغیره،
و لذلک قال صلّى اللّه علیه و سلم: [أصدق بیت قالته العرب: ألا کل شیء ما خلا اللّه باطل]- وجه آخر- «کُلُّ شَیْءٍ هالِکٌ» فإنه لا یبقى حاله أصلا فی العالم کونیه و لا إلهیه، و هو قوله تعالى: (کُلَّ یَوْمٍ هُوَ فِی شَأْنٍ) «إِلَّا وَجْهَهُ» یرید ذاته، إذ وجه الشیء ذاته، فلا تهلک، فکل ما سوى ذات الحق فهو فی مقام الاستحاله السریعه و البطیئه، و هو تبدله من صوره إلى صوره دائما أبدا، فالضمیر فی وجهه یعود على الشیء، فالشیء هالک من حیث صورته، غیر هالک من حیث وجهه و حقیقته،
و لیس إلا وجود الحق الذی ظهر به لنفسه و حقیقته، و لیس إلا وجود الحق الذی ظهر به لنفسه. «لَهُ الْحُکْمُ» أی لذلک الشیء الحکم فی الوجه، فتختلف علیه الأحکام باختلاف الصور «وَ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ» فی ذلک الحکم، أی إلى ذلک الشیء یرجع الحکم الذی حکم به على الوجه، فما ثم إلا هلاک و إیجاد فی عین واحده، و من هذه الآیه لا نثبت إطلاق لفظ الشیئیه على ذات الحق، لأنها ما وردت و لا خوطبنا بها، و الأدب أولى، «وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ کُلُّ شَیْءٍ هالِکٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُکْمُ وَ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ»
[توحید الحکم]
هذا هو التوحید الرابع و العشرون فی القرآن، و هو توحید الحکم بالتوحید الذی إلیه رجوع الکثره إذ کان عینها، و هو توحید الهویه «لَهُ الْحُکْمُ» و هو القضاء «وَ إِلَیْهِ» الضمیر فی إلیه یعود على الحکم فإنه أقرب مذکور، فالقضاء الذی له المضی فی الأمور هو الحکم الإلهی على الأشیاء «تُرْجَعُونَ» أی إلى القضاء.
رحمه من الرحمن فى تفسیر و اشارات القرآن، ج۳،