تفسیر ابن عربی سوره الفرقان

تفسیر ابن عربى(رحمه من الرحمن) سوره الفرقان

(۲۵) سوره الفرقان مکیّه

بسم اللّه الرّحمن الرّحیم‏

[سوره الفرقان (۲۵): آیه ۱]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ‏

تَبارَکَ الَّذِی نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى‏ عَبْدِهِ لِیَکُونَ لِلْعالَمِینَ نَذِیراً (۱)

[اعلم أن اللّه أنزل الکتاب فرقانا فی لیله القدر، لیله النصف من شعبان،]

اعلم أن اللّه أنزل الکتاب فرقانا فی لیله القدر، لیله النصف من شعبان، و أنزله قرآنا فی شهر رمضان، کل ذلک إلى السماء الدنیا، و من هناک نزل فی ثلاث و عشرین سنه فرقانا نجوما ذا آیات و سور، لتعلم المنازل، و تتبین المراتب، فمن نزوله إلى الأرض فی شهر شعبان یتلى فرقانا، و من نزوله فی شهر رمضان یتلى قرآنا.

[سوره الفرقان (۲۵): آیه ۲]

الَّذِی لَهُ مُلْکُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَمْ یَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ یَکُنْ لَهُ شَرِیکٌ فِی الْمُلْکِ وَ خَلَقَ کُلَّ شَیْ‏ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِیراً (۲)

[ «وَ خَلَقَ کُلَّ شَیْ‏ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِیراً»]

أول أثر إلهی فی الخلق التقدیر، لذلک قال تعالى: «وَ خَلَقَ کُلَّ شَیْ‏ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِیراً» و أعلم أن الجوهر الثابت هو العماء، و لیس إلا نفس الرحمن، و العالم جمیع ما ظهر فیه من الصور فهی أعراض فیه، و أما نضده على الظهور و الترتیب، فأرواح نوریه إلهیه مهیمه فی صور نوریه خلقیه إبداعیه فی جوهر نفس هو العماء، و من جملتها العقل الأول، و هو القلم،ثم النفس و هو اللوح المحفوظ، ثم الجسم، ثم العرش و مقره و هو الماء الجامد و الهواء و الظلمه، ثم ملائکته، ثم الکرسی، ثم ملائکته، ثم الأطلس، ثم ملائکته، ثم فلک المنازل، ثم الجنات بما فیها، ثم ما یختص بها و بهذا الفلک من الکواکب، ثم الأرض، ثم الماء، ثم الهواء العنصری، ثم النار، ثم الدخان و فتق فیه سبع سماوات: سماء القمر، و سماء الکاتب، و سماء الزهره، و سماء الشمس، و سماء الأحمر، و سماء المشتری، و سماء المقاتل، ثم أفلاکها المخلوقون منها، ثم ملائکه النار و الماء و الهواء و الأرض، ثم المولدات المعدن و النبات و الحیوان، ثم نشأه جسد الإنسان، ثم ما ظهر من أشخاص کل نوع من الحیوان و النبات و المعدن، ثم الصور المخلوقات من أعمال المکلفین و هی آخر نوع، هذا ترتیبه بالظهور فی الإیجاد. و أما ترتیبه بالمکان الوجودی أو المتوهم، فالمکان المتوهم المعقولات التی ذکرناها إلى الجسم الکل، ثم العرش، ثم الکرسی، ثم الأطلس، ثم المکوکب- و فیه الجنات- ثم سماء زحل، ثم سماء المشتری، ثم سماء المریخ، ثم سماء الشمس، ثم سماء الزهره، ثم سماء الکاتب، ثم سماء القمر، ثم الأثیر، ثم الهواء، ثم الماء، ثم الأرض.

و أما ترتیبه بالمکانه:فالإنسان الکامل، ثم العقل الأول، ثم الأرواح المهیمه، ثم النفس، ثم العرش، ثم الکرسی، ثم الأطلس، ثم الکثیب، ثم الوسیله، ثم عدن، ثم الفردوس، ثم دار السلام، ثم دار المقامه، ثم المأوى، ثم الخلد، ثم النعیم، ثم فلک المنازل، ثم البیت المعمور، ثم سماء الشمس، ثم القمر، ثم المشتری، ثم زحل، ثم الزهره، ثم الکاتب، ثم المریخ، ثم الهواء، ثم الماء، ثم التراب، ثم النار، ثم الحیوان، ثم النبات، ثم المعدن.

و فی الناس: الرسل، ثم الأنبیاء، ثم الأولیاء، ثم المؤمنون، ثم سائر الخلق. و فی الأمم: أمه محمد صلّى اللّه علیه و سلم، ثم أمه موسى علیه السلام، ثم الأمم على منازل رسلها، فنقول بعد هذا الإیجاز: إنه لما شاء سبحانه أن یوجد الأشیاء من غیر موجود، و أن یبرزها فی أعیانها بما تقتضیه من الرسوم و الحدود، لظهور سلطان الأعراض و الخواص و الفصول و الأنواع و الأجناس، الدافعین شبه الشکوک، و الرافعین حجب الالتباس، بوسائط العبارات الشارحه، و الصفات الرسمیه و الذاتیه، النیره النبراس، انجلى فی صوره العلم صور الجواهر المتماثلات و الأعراض المختلفات و المتماثلات و المتقابلات، و فصل بین هذه الذوات بین المتحیزات منها و غیر المتحیزات، کما انجلى فی ذوات الأعراض و الجواهر صور الهیئات و الحالات، بالکیفیات و صور المقادیر و الأوزان المتصلات‏ و المنفصلات بالکمیات، و صور الأدوار و الحرکات الزمانیات، و صور الأقطار و الأکوار المکانیات، و الصور الحافظات الماسکات نظام العالم، الحاملات أسباب المناقب و المثالب العرضیات، و أسباب المدائح أو المذام الشرعیات، و أسباب الصلاح و الفساد الوضعیات الحکمیات، و صور الإضافات بین المالک و المملوک، و الآباء و الأبناء و البنات، و صور التملیک بالعبید و الإماء الخارجات، و الحسن و الجمال و العلم و أمثال ذلک الداخلات، و صور التوجهات الفعلیه القائمه بالفاعلات، و صور المنفعلات التی هی بالفعل و الفاعلات مرتبطات، و قال عند ما جلّاها بالشمس و ضحاها و القمر إذا تلاها، و النهار إذا جلّاها و اللیل إذا یغشاها، و السماء و ما بناها، و الأرض و ما طحاها. هذه حقائق الآباء العلویات، و الأمهات السفلیات، و لها البقاء بالإبقاء، مع استمرار التکوینات و التلوینات بالتغییر و الاستحالات، لیثبت عندها علم ما هی الحضره الإلهیه علیه من العزه و الثبات، فهذا هو الذی أبرز سبحانه من المعلومات، و لا یجوز غیر ذلک فإنه لم یبق سوى الواجبات و المحالات.

فأول موجود أداره سبحانه فلک الإشارات إداره إحاطه معنویه، و هو أول الأفلاک الممکنات المحدثات المعقولات، و أول صوره ظهر فی هذا الفلک العمائی صور الروحانیات المهیمات، الذی منها القلم الإلهی الکاتب العلام فی الرسالات، و هو العقل الأول الفیاض فی الحکمیات و الإنباءات، و هو الحقیقه المحمدیه، و الحق المخلوق به، و العدل، عند أهل اللطائف و الإشارات، و هو الروح القدسی الکل، عند أهل الکشوف و التلویحات، فجعله عالما حافظا باقیا تاما کاملا فیاضا کاتبا من دواه العلم، تحرکه یمین القدره عن سلطان الإراده و العلوم الجاریات إلى نهایات، و هو مستوى الأسماء الإلهیات.

ثم أدار معدن فلک النفوس دون هذا الفلک و هو اللوح المحفوظ فی النبوات، و هو النفس المنفعله عند أصحاب الإدراکات و الإشارات و المکاشفات، فجعلها باقیه تامه غیر کامله و فائضه غیر مفیضه فیض العقل، فهی فی محل القصور و العجز عن بلوغ الغایات، ثم أوجد الهباء فی الکشف، و الهیولى فی النظر، و الطبیعه فی الأذهان، لا فی الأعیان، فأول صوره أظهر فی ذلک الهباء صور الأبعاد الثلاثه فکان المکان، فوجه علیه سبحانه سلطان الأربعه الأرکان، فظهرت البروج الناریات و الترابیات و الهوائیات و المائیات، فتمیزت الأکوان، و سمى هذا الجسم الشفاف اللطیف المستدیر المحیط بأجسام العالم، العرش العظیم الکریم،و استوى علیه باسمه الرحمن، استواء منزها عن الحد و المقدار، معلوما عنده غیر مکیف و لا معلوم للعقول و الأذهان، ثم أدار سبحانه فی جوف هذا الفلک الأول فلکا ثانیا، سماه الکرسی، فتدلت إلیه القدمان، فانفرق فیه کل أمر حکیم بتقدیر عزیز علیم، و عنده أوجد الخیرات الحسان، و المقصورات فی خیام الجنان، ثم رتب فیه منازل الأمور کلها، و أحکمها فی روحانیات سخرها و حکّمها بالتأثیرات السبعیه من ألف إلى ساعه عن اختلاف الملوان، و جعل هذه المنازل بین وسط ممزوج، و طرفی سعد مستقر، و نحس مستمر، بنزول المقدر المفرد الإنسان، ثم أدار سبحانه فی جوف هذا الفلک الثانی فلکا ثالثا، و خلق فیه کوکبا سابحا من الخنس الکنس، مسخرا فقیرا، أودع لدیه کل أسود حالک، و قرن به ضیق المسالک، و الوعر و الحزن و الکرب و الحزن و حسرات الفوت، و سکرات الموت، و أسرار الظلمات، و المفازات المهلکات، و الأشجار المثمرات، و الأفاعی و الحیات، و الحیوانات المضرات، و الحرات الموحشات، و الطرق الدارسات، و العنا و المشقات، و خلق عند مساعدته النفس الکلیه الجبال، لتسکین الأرضین المدحیات، و أسکن فی هذا الفلک روحانیه خلیله إبراهیم علیه السلام، عبده و رسوله.

ثم أدار فی جوف هذا الفلک فلکا رابعا، خلق فیه کوکبا سابحا من الخنس الکنس، أودع لدیه النخل الباسقات، و العدل فی القضایا و الحکومات، و أسباب الخیر و السعادات، و البیض الحسان المنعمات، و الاعتدالات و التمامات، و أسرار العبادات و القربات، و الصدقات البرهانیات، و الصلوات النوریات، و إجابه الدعوات، و الناظرین إلى الواقفین بعرفات، و قبول النسک بموضع رمی الجمرات، و خلق عند مساعدته النفس الکلیه تحلیل المیاه الجامدات، و أسکن فی هذا الفلک روحانیه نبیه موسى علیه السلام عبده و نجیه.

ثم أدار فی جوف هذا الفلک فلکا خامسا، خلق فیه کوکبا سابحا من الخنس الکنس، أودع لدیه حمایه المذاهب بالقواضب المرهفات، و الموازن السمهریات، و تجمیز قدور راسیات، و مل‏ء جفون کالجوابی المستدیرات، و التعصبات و الحمیات، و إیقاع الفتن و الحروب بین أهل الهدایات و الضلالات، و تقابل الشبه المضلات، و الأدله الواضحات بین أهل العقول السلیمه و التخیلات، و خلق عند مساعدته النفس الکل لتلطیف الأهویه السخیفات، و أسکن فی هذا الفلک روح رسولیه هارون و یحیى علیهما السلام موضحی سبیلیه. ثم أدار فی جوف هذا الفلک فلکا سادسا،خلق فیه کوکبا عظیما مشرقا سابحا، و أودع لدیه أسرار الروحانیات، و الأنوار المشرقات، و الضیاءات اللامعات، و البروق الخاطفات، و الشعاعات النیرات، و الأجساد المستنیرات، و المراتب الکاملات، و الاستواءات المعتدلات، و المعارف اللؤلؤیات و الیواقیت العالیات، و الجمع بین الأنوار و الأسرار الساریات، و معالم التأسیسات، و أنفاس النور الجاریات، و خلع الأرواح المدبرات، و إیضاح الأمور المبهمات، و حل المسائل المشکلات، و حسن إیقاع السماع فی النغمات، و توالی الواردات، و ترادف التنزلات الغیبیات، و ارتقاء المعانی الروحانیات، إلى أوج الانتهاءات، و دفع العلل بالعلالات النافعات، و الکلمات المستحسنات، و الأعراف العطریات، و أمثال ذلک مما یطول ذکره، و خلق عند مساعدته النفس الکل تحریک الفلک الأثیر لتسخین العالم بهذه الحرکات، و أسکن فی هذا الفلک إدریس النبی، المخصوص بالمکان العلی. ثم أدار فی جوف هذا الفلک فلکا سابعا خلق فیه کوکبا سابحا من الخنس الکنس، أودع لدیه التصویر التام، و حسن النظام، و السماع الشهی، و المنظر الرائق البهی، و الهیبه و الجمال، و الانس و الجلال، و خلق عند مساعدته النفس الکل تقطیر ماء رطب فی کل رکن البخارات، و أسکن فی هذا الفلک روحانیه النبی الجمیل یوسف علیه السلام.

ثم أدار فی جوف هذا الفلک فلکا ثامنا، خلق فیه کوکبا سابحا من الخنس الکنس، أودع لدیه الأوهام و الإیهام، و الوحی و الإلهام، و مهالک الآراء الفاسده و القیاسات، و الأحلام الردیئه و المبشرات، و الاختراعات الصناعیات و الاستنباطات العملیات، و ما فی الأفکار من الغلطات و الإصابات، و القوى الفاعلات و الوهمیات، و الزجر و الکهانات و الفراسات، و السحر و العزائم و الطلسمیات، و خلق عند مساعدته النفس الکل مزج البخارات الرطبه بالبخارات الیابسات، و أسکن فی هذا الفلک روحانیه روحه و کلمته عیسى علیه السلام عبده و رسوله و ابن أمته. ثم أدار فی جوف هذا الفلک فلکا آخر تاسعا خلق فیه کوکبا سابحا أودع اللّه لدیه الزیاده و النقصان، و الربو و الاستحالات بالاضمحلالات، و خلق عند مساعدته النفس الکل إمداد المولدات برکن العصارات، و أسکن فی هذا الفلک روحانیه نبیه آدم علیه السلام عبده و رسوله و صفیه، و أسکن هذه الأفلاک المستدیرات أصناف الملائکه الصافات التالیات، فمنها القائمات و القاعدات، و منها الراکعات و الساجدات، کما قال تعالى إخبارا عنهم‏ (وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ‏ مَعْلُومٌ) فهم عمار السموات، و جعل منهم الأرواح المطهرات، المعتکفین بأشرف الحضرات، و جعل منهم الملائکه المسخرات، و الوکلاء على ما یخلقه اللّه من التکوینات، فوکل بالأرجاء الزاجرات و الأنباء المرسلات، و بالإلهام و اللمات الملقیات، و بالتفصیل و التصویر و الترتیب المقسمات، و بالترغیب و الترحیب الناشرات، و بالترهیب الناشطات، و التشتیت النازعات، و بالسوق السابحات، و بالاعتناء السابقات، و بالأحکام المدبرات.

ثم أدار فی جوف هذا الفلک کره الأثیر، أودع فیها رجوم المسترقات الطارقات، ثم جعل دونه کره الهواء أجرى فیه الذاریات العاصفات، السابقات الحاملات المعصرات، و موّج فیه البحور الزاخرات الکائنات من البخارات المستحیلات، و یسمى دائره کره الزمهریر، تتعلم منه صناعه التقطیر، و أمسک فی هذه الکره أرواح الأجسام الطائرات، و أظهر فی هاتین الکرتین الرعود القاصفات، و البروق الخاطفات، و الصواعق المهلکات، و الأحجار القاتلات، و الجبال الشامخات، و الأرواح الناریات الصاعدات النازلات، و المیاه الجامدات.

ثم أدار فی جوف هذه الکره کره أودع فیها سبحانه ما أخبرنا به فی الآیات البینات، من أسرار إحیاء الموات، و أجرى فیها الأعلام الجاریات، و أسکنها الحیوانات الصامتات، ثم أدار فی جوفها کره أخرى أودع فیها ضروب التکوینات من المعادن و النباتات و الحیوانات، فأما المعادن فجعلها عزّ و جل ثلاث طبقات: منها المائیات و الترابیات و الحجریات، و کذلک النبات: منها النابتات و المغروسات و المزروعات، و کذلک الحیوانات: منها المولدات المرضعات و الحاضنات و المعفنات، ثم کون الإنسان مضاهیا لجمیع ما ذکرناه من المحدثات، ثم وهبه معالم الأسماء و الصفات، فمهدت له هذه المخلوقات المعجزات، و لهذا کان آخر الموجدات، فمن روحانیته صح له سر الأولیه فی البدایات، و من جسمیته صح له الآخریه فی الغایات، فبه بدأ الأمر و ختم، إظهارا للعنایات و أقامه خلیفه فی الأرض، لأن فیها ما فی السموات، و أیده بالآیات و العلامات و الدلالات و المعجزات، و اختصه بأصناف الکرامات، و نصب به القضایا المشروعات، لیمیز اللّه به الخبیثات من الطیبات، فیلحق الخبیث بالشقاوات فی الدرکات، و یلحق الطیب بالسعادات فی الدرجات، کما سبق فی القبضتین اللتین هما صفتان للذات، فسبحان مبدئ هذه الآیات، و ناصب هذه الدلالات، على أنه واحد قهار الأرض و السموات.

 

[سوره الفرقان (۲۵): آیه ۳]

وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَهً لا یَخْلُقُونَ شَیْئاً وَ هُمْ یُخْلَقُونَ وَ لا یَمْلِکُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا یَمْلِکُونَ مَوْتاً وَ لا حَیاهً وَ لا نُشُوراً (۳)

من اتخذ إلها من غیر دعوى منه، بل هو فی نفسه عبد، غیر راض بما نسب إلیه، و عاجز عن إزاله ما ادعی فیه، فإنه مظلوم حیث سلب عنه هذا المدعی ما یستحقه، و هو کونه عبدا، فظلمه فینتصر اللّه له لا لنفسه، فاتخاذ الشریک من مظالم العباد.

[سوره الفرقان (۲۵): الآیات ۴ الى ۱۳]

وَ قالَ الَّذِینَ کَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْکٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَیْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً (۴) وَ قالُوا أَساطِیرُ الْأَوَّلِینَ اکْتَتَبَها فَهِیَ تُمْلى‏ عَلَیْهِ بُکْرَهً وَ أَصِیلاً (۵) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِی یَعْلَمُ السِّرَّ فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ کانَ غَفُوراً رَحِیماً (۶) وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ یَأْکُلُ الطَّعامَ وَ یَمْشِی فِی الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَیْهِ مَلَکٌ فَیَکُونَ مَعَهُ نَذِیراً (۷) أَوْ یُلْقى‏ إِلَیْهِ کَنْزٌ أَوْ تَکُونُ لَهُ جَنَّهٌ یَأْکُلُ مِنْها وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (۸)

انْظُرْ کَیْفَ ضَرَبُوا لَکَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا یَسْتَطِیعُونَ سَبِیلاً (۹) تَبارَکَ الَّذِی إِنْ شاءَ جَعَلَ لَکَ خَیْراً مِنْ ذلِکَ جَنَّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ یَجْعَلْ لَکَ قُصُوراً (۱۰) بَلْ کَذَّبُوا بِالسَّاعَهِ وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ کَذَّبَ بِالسَّاعَهِ سَعِیراً (۱۱) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَکانٍ بَعِیدٍ سَمِعُوا لَها تَغَیُّظاً وَ زَفِیراً (۱۲) وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَکاناً ضَیِّقاً مُقَرَّنِینَ دَعَوْا هُنالِکَ ثُبُوراً (۱۳)

«وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها» یعنی من جهنم‏ «مَکاناً ضَیِّقاً مُقَرَّنِینَ دَعَوْا هُنالِکَ ثُبُوراً» فإن النفوس تکون فی أشد ألم، و أضیق حبس، إذا شقیت و حبست فی المکان الضیق، لأن الأرواح من عالم السعه و الانفساح بالأصل، فإذا انحصرت فی هذا العالم الضیق بما اکتسبت کان الضیق علیها أشد عذابا، فإن الضیق نقیض الرحمه. و الثبور الهلاک.

[سوره الفرقان (۲۵): آیه ۱۴]

لا تَدْعُوا الْیَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً کَثِیراً (۱۴)

ثبورا لا یتناهى، فإن عذابکم لا یتناهى.

[سوره الفرقان (۲۵): الآیات ۱۵ الى ۱۷]

قُلْ أَ ذلِکَ خَیْرٌ أَمْ جَنَّهُ الْخُلْدِ الَّتِی وُعِدَ الْمُتَّقُونَ کانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَ مَصِیراً (۱۵) لَهُمْ فِیها ما یَشاؤُنَ خالِدِینَ کانَ عَلى‏ رَبِّکَ وَعْداً مَسْؤُلاً (۱۶) وَ یَوْمَ یَحْشُرُهُمْ وَ ما یَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَیَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِی هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِیلَ (۱۷)

النجاه مطلوبه لکل نفس و لأهل کل مله، فهی محبوبه للجمیع، غیر أنهم لما جهلوا الطریق الموصل إلیها فکل ذی نحله و مله یتخیل أنه على الطریق الموصل إلیها، فالقدح الذی یقع بین أهل الملل و النحل إنما هو من جهه الطرق التی سلوکها للوصول إلیها، لا من جهتها، و لو علم المخطئ طریقها أنه على خطأ ما أقام علیه.

[سوره الفرقان (۲۵): الآیات ۱۸ الى ۱۹]

قالُوا سُبْحانَکَ ما کانَ یَنْبَغِی لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِکَ مِنْ أَوْلِیاءَ وَ لکِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّکْرَ وَ کانُوا قَوْماً بُوراً (۱۸) فَقَدْ کَذَّبُوکُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِیعُونَ صَرْفاً وَ لا نَصْراً وَ مَنْ یَظْلِمْ مِنْکُمْ نُذِقْهُ عَذاباً کَبِیراً (۱۹)

الظلم هنا الذی جاء فی قوله تعالى‏ (الَّذِینَ آمَنُوا وَ لَمْ یَلْبِسُوا إِیمانَهُمْ بِظُلْمٍ) و لیس إلا الظلم الذی قال فیه لقمان لابنه‏ (لا تُشْرِکْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْکَ لَظُلْمٌ عَظِیمٌ) کذا فسره رسول اللّه صلّى اللّه علیه و سلم.

 

[سوره الفرقان (۲۵): الآیات ۲۰ الى ۲۳]

وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَکَ مِنَ الْمُرْسَلِینَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَیَأْکُلُونَ الطَّعامَ وَ یَمْشُونَ فِی الْأَسْواقِ وَ جَعَلْنا بَعْضَکُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَهً أَ تَصْبِرُونَ وَ کانَ رَبُّکَ بَصِیراً (۲۰) وَ قالَ الَّذِینَ لا یَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَیْنَا الْمَلائِکَهُ أَوْ نَرى‏ رَبَّنا لَقَدِ اسْتَکْبَرُوا فِی أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا کَبِیراً (۲۱) یَوْمَ یَرَوْنَ الْمَلائِکَهَ لا بُشْرى‏ یَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِینَ وَ یَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (۲۲) وَ قَدِمْنا إِلى‏ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (۲۳)

فمن الغیره الإلهیه أن الناس ینادی مناد فیهم من قبل اللّه: أین ما أعطی لغیر اللّه؟ فیؤتى بالأموال الجسام، و العقار و الأملاک، ثم یقال: أین ما أعطی لوجهی؟ فیؤتى بالکسر الیابسه، و الفلوس و قطع الفضه المحقره، و الخلیع من الثیاب، فغار الحق لذلک أن یعطى لوجهه من نعمته مثل ذلک، فأخذ الصدقه بیده و رباها حتى صارت مثل جبل أحد أکبر ما یکون، فیظهرها له على رءوس الأشهاد، و یحقر ما أعطی لغیر اللّه، فیجعله هباء منثورا.

[سوره الفرقان (۲۵): آیه ۲۴]

أَصْحابُ الْجَنَّهِ یَوْمَئِذٍ خَیْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِیلاً (۲۴)

لا مفاضله بین الخیر و الشر، فما کان خیر أصحاب الجنه أفضل و أحسن إلا من کونه واقعا وجودیا محسوسا، فهو أفضل من الخیر الذی کان الکافر یتوهمه فی الدنیا، و یظن أنه یصل إلیه بکفره لجهله، فلهذا قال فیه خیر و أحسن، فأتى ببنیه المفاضله.

[سوره الفرقان (۲۵): آیه ۲۵]

وَ یَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِکَهُ تَنْزِیلاً (۲۵)

«یَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ» أی بسبب الغمام، أی لتکون غماما، فتفتح أبوابا کلها فتصیر غماما، و قد کان الملائکه عمارها و هی سماء، فیکونون فیها و هی غمام، و فیها یأتون یوم القیامه إلى الحشر التقدیری، و الملائکه فی ظل من الغمام، و الظلل أبوابها یقول اللّه تعالى‏ (وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَکانَتْ أَبْواباً) و قال‏ «یَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِکَهُ تَنْزِیلًا» و هو إتیانهم فی ذلک الغمام لإتیان اللّه للقضاء و الفصل بین عباده یوم القیامه فی تجلی القهر و الرحمه.

 

[سوره الفرقان (۲۵): الآیات ۲۶ الى ۲۷]

الْمُلْکُ یَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَ کانَ یَوْماً عَلَى الْکافِرِینَ عَسِیراً (۲۶) وَ یَوْمَ یَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى‏ یَدَیْهِ یَقُولُ یا لَیْتَنِی اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِیلاً (۲۷)

«وَ یَوْمَ یَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى‏ یَدَیْهِ» و هم الکفار المقلده «یَقُولُ» القائل منهم‏ «یا لَیْتَنِی اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِیلًا» فإنه قد زالت العداوه العرضیه، فهم الذین بلغتهم دعوه الرسل علیهم السلام فردوها و لم یعملوا بها.

[سوره الفرقان (۲۵): الآیات ۲۸ الى ۲۹]

یا وَیْلَتى‏ لَیْتَنِی لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِیلاً (۲۸) لَقَدْ أَضَلَّنِی عَنِ الذِّکْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِی وَ کانَ الشَّیْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (۲۹)

«وَ کانَ الشَّیْطانُ» یعنی شیطان الإنس لا شیطان الجن‏ «لِلْإِنْسانِ خَذُولًا» فإنه قال:

ما أضلنی عن الذکر إلا فلان، و سمى إنسانا مثله، حیث أصغى إلیه و قلده فی مقالته، و حال بینه و بین اتباع ما أمره اللّه باتباعه، و هو ما جاء به رسول اللّه صلّى اللّه علیه و سلم.

[سوره الفرقان (۲۵): الآیات ۳۰ الى ۴۳]

وَ قالَ الرَّسُولُ یا رَبِّ إِنَّ قَوْمِی اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (۳۰) وَ کَذلِکَ جَعَلْنا لِکُلِّ نَبِیٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِینَ وَ کَفى‏ بِرَبِّکَ هادِیاً وَ نَصِیراً (۳۱) وَ قالَ الَّذِینَ کَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَیْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَهً واحِدَهً کَذلِکَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَکَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِیلاً (۳۲) وَ لا یَأْتُونَکَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناکَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِیراً (۳۳) الَّذِینَ یُحْشَرُونَ عَلى‏ وُجُوهِهِمْ إِلى‏ جَهَنَّمَ أُوْلئِکَ شَرٌّ مَکاناً وَ أَضَلُّ سَبِیلاً (۳۴)

وَ لَقَدْ آتَیْنا مُوسَى الْکِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِیراً (۳۵) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِیراً (۳۶) وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا کَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَ جَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آیَهً وَ أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِینَ عَذاباً أَلِیماً (۳۷) وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ الرَّسِّ وَ قُرُوناً بَیْنَ ذلِکَ کَثِیراً (۳۸) وَ کُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَ کُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِیراً (۳۹)

وَ لَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْیَهِ الَّتِی أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَ فَلَمْ یَکُونُوا یَرَوْنَها بَلْ کانُوا لا یَرْجُونَ نُشُوراً (۴۰) وَ إِذا رَأَوْکَ إِنْ یَتَّخِذُونَکَ إِلاَّ هُزُواً أَ هذَا الَّذِی بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (۴۱) إِنْ کادَ لَیُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَیْها وَ سَوْفَ یَعْلَمُونَ حِینَ یَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِیلاً (۴۲) أَ رَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَکُونُ عَلَیْهِ وَکِیلاً (۴۳)راجع الجاثیه آیه ۲۳.

عبد الهوى آبق عن ملک مولاه‏ و لیس یخرج عنه فهو تیاه‏
الحرّ من ملک الأکوان أجمعها و لیس یملکه مال و لا جاه‏

لما کان الهواء إذا تحرک أقوى المؤثرات الطبیعیه فی الأجسام و الأرواح، لم یکن ثمّ أقوى من الهواء إلا الإنسان، حیث یقدر على قمع هواه بعقله الذی أوجده اللّه فیه، فیظهر عقله فی حکمه على هواه، فإنه لقوه الصوره التی خلق علیها، الرئاسه له ذاتیه، و لکونه ممکنا الفقر و الذله له ذاتیه، فإذا غلّب فقره على رئاسته، فظهر بعبودیته و لم یظهر لربوبیه الصوره فیه أثر، لم یکن مخلوق أشد منه. ورد فی الخبر عن أنس بن مالک عن النبی صلّى اللّه علیه و سلم قال [لما خلق اللّه الأرض جعلت تمید، فخلق الجبال فقال بها علیها فاستقرت، فعجبت الملائکه فقالوا: یا رب هل من خلقک شی‏ء أشد من الجبال؟ قال: نعم الحدید، فقالوا: یا رب‏ فهل من خلقک شی‏ء أشد من الحدید؟ قال: نعم النار، قالوا: یا رب فهل من خلقک شی‏ء أشد من النار؟ قال: نعم الماء، قالوا: یا رب فهل من خلقک شی‏ء أشد من الماء؟

قال: نعم الریح، قالوا: یا رب فهل من خلقک شی‏ء أشد من الریح؟ قال: ابن آدم تصدق بصدقه بیمینه یخفیها عن شماله‏] فأعطى اللّه من القوه النافذه للهوى ما یظهر بها على أکثر العقول إلا أن یعصم اللّه تعالى، فإن الهوى یقول: أنا الإله المعبود عند کل موجود، فإنه یعرض عن العقل و ما جاء به النقل، و تتبعه الشیاطین و الشهوه.

[سوره الفرقان (۲۵): آیه ۴۴]

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَکْثَرَهُمْ یَسْمَعُونَ أَوْ یَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ کَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِیلاً (۴۴)

«إِنْ هُمْ إِلَّا کَالْأَنْعامِ» یعنی فی الضلال الذی هو الحیره، و ما شبّه اللّه أهل الضلال بالأنعام نقصا بالأنعام، فقد أثنى رسول اللّه صلّى اللّه علیه و سلم على البهائم بقوله: [لو یعلم البهائم من الموت ما تعلمون ما أکلتم منها سمینا] و إنما وقع التشبیه فی الحیره، لا فی المحار فیه، فإن الأنعام و البهائم عالمه باللّه بالفطره حائره فیه، لذلک قال تعالى «إن هم إلا کالأنعام فإن لهم قلوبا یعقلون بها، و إن لهم أعینا یبصرون بها، و إن لهم آذانا یسمعون بها، فأنزلوا أنفسهم منزله الأنعام «بل هم أضل سبیلا» لأن الأنعام ما جعل اللّه لهم هذه القوى التی توجب لصاحب البصر أن یعتبر، و لصاحب الأذن أن یعی ما یسمع، و لصاحب القلب أن یعقل؛ و السبیل الطریق، فزادوا ضلالا أی حیره فی الطریق التی یطلبونها للوصول إلى معرفه ربهم من طریق أفکارهم، فهذه حیره زائده على الحیره فی اللّه، و کذلک قال فیهم حیثما قال، إنما جعل الزیاده فی السبیل و لیس إلا الفکر و التفکر فیما منع التفکر فیه، و هو النظر، فقال تعالى‏ (وَ مَنْ کانَ فِی هذِهِ أَعْمى‏ فَهُوَ فِی الْآخِرَهِ أَعْمى‏ وَ أَضَلُّ سَبِیلًا)– راجع الأعراف ۱۷۸-.

[سوره الفرقان (۲۵): الآیات ۴۵ الى ۴۶]

أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّکَ کَیْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساکِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَیْهِ دَلِیلاً (۴۵) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَیْنا قَبْضاً یَسِیراً (۴۶)

[ «أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّکَ کَیْفَ مَدَّ الظِّلَّ»]

«أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّکَ کَیْفَ مَدَّ الظِّلَّ» قبض الظل و مدّه من اللطف ما إذا فکر فیه الإنسان رأى عظیم أمر، و لهذا نصبه اللّه دلیلا على معرفته. فقال‏ «أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّکَ کَیْفَ مَدَّ الظِّلَّ» فلا یدرک البصر عین امتداده حالا بعد حال، فإنه لا یشهد له حرکه مع شهود انتقاله، فهو عنده متحرک لا متحرک، و کذلک فی فیئه و هو قوله‏ «ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَیْنا قَبْضاً یَسِیراً» فمنه خرج، فإنه لا ینقبض إلا إلى ما منه خرج، کذلک تشهده العین،

و قد قال تعالى و هو الصادق إنه قبضه إلیه، فعلمنا أن عین ما خرج منه هو الحق، ظهر بصوره خلق، فیه ظل یبرزه إذا شاء، و یقبضه إذا شاء لکن جعل الشمس علیه دلیلا و لم یتعرض لتمام الدلاله، و هو کثافه الجسم الخارج الممتد عنه الظل، فبالمجموع کان امتداد الظل، فهذا شمس، و هذا جدار، و هذا ظل، و هذا حکم امتداد و قبض بفی‏ء و رجوع إلى ما منه بدأ فإلیه عاد، و العین واحده، فهل یکون شی‏ء ألطف من هذا؟

فالأبصار و إن لم تدرکه فما أدرکت إلا هو، فإنه ما أحالنا إلا على مشهود بقوله‏ «أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّکَ کَیْفَ مَدَّ الظِّلَّ» و ما مده إلا بشمس و ذات کثیفه تحجب وصول نور الشمس إلى ما امتد علیه ظل هذه الذات، و جهه خاصه، ثم قبضه کذلک، فهذه کیفیه ما خاطبنا بها أن ننظر إلیها و ما قال: فیها فکنا نصرف النظر تألقا إلى الفکر، و لکن بأداه «إلى» أراد شهود البصر، و إن کانت الأدوات یدخل بعضها فی مکان بعض، و لکن لا یعرف ذلک إلا بقرائن الأحوال،

و هی إذا استحال أن یکون حکم هذه الأداه بالوضع فی هذا الموضع، علمنا أنها بدل و عوض من أداه ما یستحقه ذلک الموضع، و هذا معلوم فی اللسان، و بهذا اللسان أنزل القرآن، فلا بد أن یجری به على ما تواطئوا علیه فی لحنهم، فقرن الرؤیه ب «إلى» و جعل المرئی الکیف، فلم یشهد هنا ذات الحق و هو یکیف مد الظل، و إنما رأینا مد الظلال عن الأشخاص الکثیفه، التی تحجب الأنوار أن تنبسط على الأماکن التی تمتد فیها ظلال هذه الأشخاص، فعلمنا أن الرؤیه فی هذا الخطاب إنما متعلقها العلم بالکیف المشهود الذی ذکرناه، و أن ذلک من اللّه سبحانه لا من غیره، أی أنه لو أراد أن تکون الأشخاص الکثیفه منصوبه،

و الأنوار فی جهه منها بمنع تلک الأشخاص انبساط النور على تلک الأماکن فیسمى منعها ظلالا، أو یقبض تلک الظلال عن الانبساط على تلک الأماکن و لا یخلق فیها نورا آخر، و لا ینبسط ذلک النور المحجوب على تلک الأماکن لما قصرت إرادته عن ذلک، کما قال تعالى: «ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَیْنا قَبْضاً یَسِیراً» و هو رجوع الظل‏ إلى الشخص الممتد منه ببروز النور حتى یشهد ذلک المکان، فجعل المقبوض إنما کان قبضه إلى اللّه لا إلى الجدار، و فی الشاهد و ما تراه العین أن سبب انقباض الظل و تشمیره إلى جهه الشخص الکثیف إنما هو بروز النور،

فهذه آیه الدلاله على اللّه بضرب مثل الظل، فأمرنا سبحانه بالنظر إلیه، و النظر إلیه معرفته، و لکن من حیث أنه مد الظل، و هو إظهاره وجود عینک، و ما فی المسائل الإلهیه ما تقع فیها الحیره أکثر و لا أعظم من مسئله الأفعال، فما نظرت إلیه من حیث أحدیه ذاته فی هذا المقام و إنما نظرت إلیه من حیث أحدیه فعله فی إیجادک فی الدلاله، و هذه الآیه دلیل من قال بمنع تجلیه سبحانه فی الأفعال، أی فی نسبه ظهور الکائنات و المظاهر عن الذات التی تتکون عنها الکائنات، و هو قوله تعالى‏ (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ) و الأمر بینک و بین الحق فی الوجود بین الاقتدار الإلهی، و بین القبول من الممکن، فقبض الظل إلیه لیعرفک بک و بنفسه، لأنه ما خرج الظل إلا منک، و لو لا أنت لم یکن ظل، و لو لا الشمس أو النور لم یکن ظل، و کلما کثف الشخص تحققت أعیان الظلال، فمهما ارتفع واحد من الأمرین، ارتفع الوجود الحادث، کذلک إذا ارتفع العین المشرق أو الجسم الکثیف الحائل عن نفوذ هذا الإشراق فیه لما حدث الظل،

و قوله تعالى‏ «ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَیْهِ دَلِیلًا» الضمیر فی علیه یطلب الظل لأنه أقرب مذکور، و یطلب الاسم الرب، و إعادته على الرب أوجه، فإنه بالشمس ضرب اللّه المثل فی رؤیته یوم القیامه، فقال على لسان نبیه صلّى اللّه علیه و سلم [ترون ربکم کما ترون الشمس بالظهیره] أی وقت الظهر، و أراد عند الاستواء بقبض الظل فی الشخص فی ذلک الوقت لعموم النور ذات الرائی، و هو حال فنائه عن رؤیه نفسه فی مشاهده ربه، ثم قال‏ «ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَیْنا قَبْضاً یَسِیراً» و هو عند الاستواء، ثم عاد إلى مده بدلوک الشمس و هو بعد الزوال، لأنه فی هذا الوقت تثبت له المعرفه بربه من حیث مده الظل،

و هنا تکون إعاده الضمیر من «علیه» على الرب أوجه، فإنه عند الطلوع یعاین مد الظل، فینظر ما السبب فی مده؟ فیرى ذاته حائله بین الظل و الشمس، فینظر إلى الشمس فیعرف فی مده ظله ما للشمس فی ذلک من الأثر، فکان الظل على الشمس دلیلا فی النظر، و کان الشمس على مد الظل دلیلا فی الأثر. و اعلم أن الممکنات التی أوجدها الحق تعالى هی للأعیان التی تتضمنها حضره الإمکان- و هی برزخ بین حضره الوجود المطلق و العدم المطلق- بمنزله الظلالات للأجسام، بل هی الظلالات‏ الحقیقیه،

و هی التی وصفها الحق سبحانه بالسجود له مع سجود أعیانها، فما زالت تلک الأعیان ساجده له قبل وجودها، فلما وجدت ظلالاتها، وجدت ساجده للّه تعالى، لسجود أعیانها التی وجدت عنها، من سماء و أرض و شمس و قمر و نجم و جبال و شجر و دواب و کل موجود، ثم لهذه الظلالات- التی ظهرت عن تلک الأعیان الثابته من حیث ما تکونت أجساما- ظلالات، أوجدها الحق لها دلالات على معرفه نفسها من أین صدرت، ثم أنها تمتد مع میل النور أکثر من حد الجسم الذی تظهر عنه إلى ما لا یدرکه طولا، و مع هذا ینسب إلیه، و هو تنبیه أن العین التی فی البرزخ التی وجدت عنها لا نهایه لها مما تتصف به من الأحوال و الأعراض و الصفات و الأکوان، فهو عالم لا یتناهى و ما له طرف ینتهی إلیه، فإنه الحضره الفاصله بین الوجود المطلق و العدم المطلق، و أنت بین هذین الظلالین ذو مقدار، فأنت موجود عن حضره لا مقدار لها، و یظهر عنک ظل لا مقدار له،

فامتداده یطلب تلک الحضره البرزخیه، و تلک الحضره البرزخیه هی ظل الوجود المطلق من الاسم النور، الذی ینطلق على وجوده، فلهذا نسمیها ظلا، و وجود الأعیان ظل ذلک الظل، و الظلالات المحسوسه ظلالات هذه الموجودات فی الحس، و لما کان الظل فی حکم الزوال لا فی حکم الثبات، و کانت الممکنات و إن وجدت فی حکم العدم، سمیت ظلالات لیفصل بینها و بین من له الثبات المطلق فی الوجود، و هو واجب الوجود، و بین من له الثبات المطلق فی العدم و هو المحال، لتتمیز المراتب، فالأعیان الموجودات إذا ظهرت ففی هذا البرزخ هی فإنه ما تمّ حضره تخرج إلیه، ففیها تکتسب حاله الوجود، و الوجود فیها متناه ما حصل منه، و الإیجاد فیها لا ینتهی، فهذا مثل ضربه اللّه على دوام الخلق و التکوین، و على العین الثابته ثم ظهورها للوجود:

انظر إلى نقص ظل الشخص فیه إذا ما الشمس تعلو فتفنی ظله فیه‏
ذاک الدلیل على تحریکه أبدا بدأ و فیئا و هذا القدر یکفیه‏
لو کان یسکن وقتا ما بدا أثر فی الکون من کن و ذاک الحکم من فیه‏
فالکون من نفس الرحمن لیس له‏ أصل سواه فحکم القول یبدیه‏

– اعتبار- ظلک على صورتک، و أنت على الصوره، فأنت ظل قام الدلیل على أن التحریک للحق لا لک، کذلک التحریک لک لا للظل، غیر أنک تعترض‏ فلم تعرف قدرک، و ظلک لا یعترض، فیا من هو ظله أعلم بقدره منه متى تفلح؟ ما مدّت الظلال للاستظلال، و إنما مدّت لتکون سلّما إلى معرفه اللّه معک، فأنت الظل و سیقبضک إلیه، فمن نظر إلى ظله عرف أن حکمه فی الحرکه و السکون من أصله، فأراد الحق منک بهذه الآیه أن تکون معه کظلک معک من عدم الاعتراض علیه فیما یجریه علیک، و التسلیم و التفویض إلیه فیما تصرف فیک به، و ینبهک بذلک أن حرکتک عین تحریکه، و أن سکونک کذلک، ما الظل یحرک الشخص، کذلک فلتکن مع اللّه، فإن الأمر کما شاهدته فهو المؤثر فیک‏

[الإنسان الکامل هو ظل اللّه‏]

– من باب الإشاره- الإنسان الکامل هو ظل اللّه فی کل ما سوى اللّه، و صورته فی الغیب صوره الظل فی الشخص الذی امتد عنه الظل، أ لا ترى الشخص إذا امتد له ظل فی الأرض، أ لیس له ظل فی ذات الشخص الذی یقابله ذلک الظل الممتد؟ فذلک الظل القائم بذات الشخص المقابل للظل الممتد ذلک هو الأمر الذی بقی من الإنسان، الذی هو ظل اللّه الممدود فی الغیب، لا یمکن خروجه أبدا و هو باطن الظل الممدود، و الظل الممدود هو الظاهر، فظاهر الإنسان ما امتد من الإنسان فظهر، و باطنه ما لم یفارق الغیب فلا یعلم باطن الإنسان أبدا،

و قبضه قبضا یسیرا عودته إلى غیبه، فاعتبر فی الإشاره أن الإنسان الذی لم یزل یحفظ صوره الحق فی نفسه ظل له، و اعلم أن الإنسان لما کان مثال الصوره الإلهیه، کالظل للشخص الذی لا یفارقه على کل حال، غیر أنه یظهر للحس تاره، و یخفى تاره، فإذا خفی فهو معقول فیه، و إذا ظهر فهو مشهود بالبصر لمن یراه، فالإنسان الکامل فی الحق معقول فیه، کالظل إذا خفی فی الشمس فلا یظهر، فلم یزل الإنسان أزلا و أبدا، و لهذا کان مشهودا للحق من کونه موصوفا بأنّ له بصرا، فلما مد الظل منه ظهر بصورته‏ «أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّکَ کَیْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساکِناً» أی ثابتا فیمن هو ظله فلا یمده،

فلا یظهر له عین فی الوجود الحسی إلا للّه وحده، فلم یزل مع اللّه، و لا یزال مع اللّه، فهو باق ببقاء اللّه، و ما عدا الإنسان الکامل فهو باق بإبقاء اللّه، فالإنسان الکامل الذی لا أکمل منه هو محمد صلّى اللّه علیه و سلم، و هذا الکمال هو الغایه من العالم، فحاز محمد صلّى اللّه علیه و سلم درجه الکمال بتمام الصوره الإلهیه، و الکمل من الأناسی النازلین عن درجه هذا الکمال هم الأنبیاء صلوات اللّه و سلامه علیهم، و منزله محمد صلّى اللّه علیه و سلم من العالم کله منزله النفس الناطقه من الإنسان، التی من دونها لا یکون إنسانا، فحال العالم قبل ظهوره صلّى اللّه علیه و سلم کان بمنزله الجسد المسوى، و حال العالم بعد موته بمنزله النائم، و حاله العالم ببعثه یوم القیامه بمنزله الانتباه و الیقظه بعد النوم، فهو صلّى اللّه علیه و سلم روح العالم،

و هذه الآیه ضرب مثال على خفاء ظهور رسول اللّه صلّى اللّه علیه و سلم فی العالم قبل ظهور نشأته الظاهره، و بعد انتقاله إلى الرفیق الأعلى، و أنه هو أکمل صوره إلهیه فی الظهور و الخفاء لمن فهم المعنى، و أنه بقبضه صلّى اللّه علیه و سلم لم یختف من العالم اختفاء عدمیا، بل هو کالظل المندرج فی أصله، فروح العالم صلّى اللّه علیه و سلم هو الآن من العالم فی صوره المحل الذی هو فیه روح الإنسان عند النوم، إلى یوم البعث، الذی هو مثل یقظه النائم هنا، فالعالم الیوم بفقد جمعیه محمد صلّى اللّه علیه و سلم فی ظهوره روحا و جسما و صوره و معنى، نائم لا میت، فإنه تعالى ذکر الکیف، و الظل لا یخرج إلا على صوره من مد منه، فخلقه رحمه، فمدّ الظل رحمه وافیه، فلا أعظم رحمه من الإنسان الکامل، و النور من الصفات، و الظل على صوره الذات- إشاره- ما مد الظلال للراحه، و إنما مدها لتکون سلما إلى معرفته فأنت ذلک الظل و سیقبضک إلیه.

[سوره الفرقان (۲۵): آیه ۴۷]

وَ هُوَ الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ اللَّیْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (۴۷)

[ «جَعَلَ لَکُمُ اللَّیْلَ لِباساً»]

«جَعَلَ لَکُمُ اللَّیْلَ لِباساً» لأهله یلبسونه فیسترهم‏ «وَ النَّوْمَ سُباتاً» أی راحه طبیعیه للناس- من باب الإشاره- «هُوَ الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ اللَّیْلَ لِباساً» هذا لأهل اللیل أی یسترهم عن أعین الأغیار فلا یشهد أحد فعل أهل اللیل مع اللّه فی عبادتهم، لحجاب ظلمه اللیل التی أرسلها اللّه دونهم، فیتمتعون فی خلواتهم اللیلیه بحبیبهم فیناجونه من غیر رقیب، لأنه جعل النوم فی أعین الرقباء سباتا، أی راحه لأهل اللیل إلهیه، کما هو راحه للناس طبیعیه، فإذا نام الناس استراح هؤلاء مع ربهم، و خلوا به حسا و معنى فیما یسألونه من قبول توبه، و إجابه دعوه، و مغفره حوبه، و غیر ذلک. فنوم الناس راحه لهم، فإن اللّه تعالى ینزل إلیهم باللیل إلى السماء الدنیا فلا یبقى بینه و بینهم حجاب فلکی، و نزوله إلیهم رحمه بهم، ورد فی الخبر: کذب من ادعى محبتی فإذا جنه اللیل نام عنی، أ لیس کل محب یطلب الخلوه بحبیبه، ها أنا ذا قد تجلیت لعبادی هل من داع فأستجیب له؟ هل من تائب فأتوب علیه؟

هل من مستغفر فأغفر له؟ حتى ینصدع الفجر.

 

[سوره الفرقان (۲۵): آیه ۴۸]

وَ هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ الرِّیاحَ بُشْراً بَیْنَ یَدَیْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (۴۸)

قال صلّى اللّه علیه و سلم [إن اللّه خلق الماء طهورا لا ینجسه شی‏ء] فإذا حصلت النجاسه فیه بلا شک.

لکنها متمیزه عن الماء- بقی الماء طاهرا على أصله، إلا أنه یعسر إزاله النجاسه منه، فما أباح الشارع من استعمال الماء الذی فیه النجاسه استعملناه، و ما منع من ذلک امتنعنا منه لأمر الشرع، مع عقلنا أن النجاسه فی الماء، و عقلنا أن الماء طهور فی ذاته لا ینجسه شی‏ء، فما منعنا الشارع من استعمال الماء الذی فیه النجاسه لکونه نجسا أو تنجس، و إنما منعنا من استعمال الشی‏ء النجس لکوننا لا نقدر على فصل أجزائه من أجزاء الماء الطاهر، فبین النجاسه و الماء برزخ مانع لا یلتقیان لأجله، و لو التقیا لتنجّس الماء.

[سوره الفرقان (۲۵): الآیات ۴۹ الى ۵۳]

لِنُحْیِیَ بِهِ بَلْدَهً مَیْتاً وَ نُسْقِیَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِیَّ کَثِیراً (۴۹) وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَیْنَهُمْ لِیَذَّکَّرُوا فَأَبى‏ أَکْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ کُفُوراً (۵۰) وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِی کُلِّ قَرْیَهٍ نَذِیراً (۵۱) فَلا تُطِعِ الْکافِرِینَ وَ جاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً کَبِیراً (۵۲) وَ هُوَ الَّذِی مَرَجَ الْبَحْرَیْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ جَعَلَ بَیْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً (۵۳)

[دور البحر فى تصفیه الهواء]

«و هو الذی مرج البحرین هذا عذاب فرات» لمصالح العباد فیما یستعملونه من الشرب و غیر ذلک، «وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ» لمصالح العباد فیما یذهب به من عفونات الهواء، فبما فیه من الملوحه یصفی الجو من الوخم و العفونات التی تطرأ فیه من أبخره الأرض و أنفاس العالم، فیطرأ التعفین فی الجو، فیذهب ذلک التعفین ما فی البحر من الملوحه، فیصفو الجو، و ذلک من رحمه اللّه بخلقه.

 

[سوره الفرقان (۲۵): الآیات ۵۴ الى ۵۹]

وَ هُوَ الَّذِی خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ کانَ رَبُّکَ قَدِیراً (۵۴) وَ یَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا یَنْفَعُهُمْ وَ لا یَضُرُّهُمْ وَ کانَ الْکافِرُ عَلى‏ رَبِّهِ ظَهِیراً (۵۵) وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَ نَذِیراً (۵۶) قُلْ ما أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ یَتَّخِذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِیلاً (۵۷) وَ تَوَکَّلْ عَلَى الْحَیِّ الَّذِی لا یَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَ کَفى‏ بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِیراً (۵۸)

الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَیْنَهُما فِی سِتَّهِ أَیَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِیراً (۵۹)

هذه الآیه دلیل على أن الأیام کانت موجوده بوجود حرکه فلک البروج، و هی الأیام المعروفه عندنا لا غیر، فإذا دار فلک البروج دوره واحده فذلک هو الیوم الذی خلق اللّه فیه السموات و الأرض، ثم أحدث اللیل و النهار عند وجود الشمس، لا الأیام، و الیوم أربع و عشرون ساعه، و قد یسمى النهار وحده یوما بحکم الاصطلاح و اعلم أن اللّه خلق العالم فی سته أیام، بدأ به یوم الأحد، و فرغ منه یوم الجمعه،

[ «ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ»*]

«ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ»* فلما کان الیوم السابع من الأسبوع و فرغ من العالم کان یشبه المستریح الذی مسه اللغوب، فاستلقى و وضع إحدى رجلیه على الأخرى، و قال: أنا الملک؛ کذا ورد فی الأخبار النبویه، فالفراغ الإلهی إنما کان من الأجناس فی السته الأیام، و أما أشخاص الأنواع فلا «الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ» الضمیر فی به یعود على الاستواء «خَبِیراً» و هو العارف من عباد اللّه من نبی و غیره، ممن شاء اللّه من عباده، لأنه قال‏ (یُؤْتِی الْحِکْمَهَ مَنْ یَشاءُ) و الخبیر المسئول یعنی کل من حصل له ذلک ذوقا، و صفته نزول القرآن على قلبه، فکان قلبه عرشا لاستواء القرآن ذوقا، یعلم لذوقه و خبرته اتصاف الرحمن بالاستواء على العرش ما معناه، فإذا أردت أن تسأل عن حقیقه أمر ما، فاسأل عنه من له فیه ذوق، و من لا ذوق له فی الأشیاء فلا تسأله فإنه لا یخبرک إلا باسم ما سألت عنه لا بحقیقته.

 

[سوره الفرقان (۲۵): آیه ۶۰]

وَ إِذا قِیلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً (۶۰)

لما کان المشرکون لا یعلمون للحق إلا مسمى اللّه، و لم یعلموا أنه عین الرحمن قیل:

إن الاسم الرحمن لم یکن عندهم، و لا سمعوا به قبل هذا، فلما قال لهم صلّى اللّه علیه و سلم‏ «اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ» و هو سجود إنعام لا سجود قهر، قالوا: و ما الرحمن؟ على طریق الاستفهام، و قد قیل: إنهم کانوا یعرفونه مرکبا الرحمن الرحیم اسم واحد، کبعلبک و رام هرمز، فلما أفرده بغیر نسب أنکروه، و لم تنکر العرب کلمه اللّه، فإنهم القائلون‏ (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِیُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى‏) فعلموه، و لما کان الرحمن یعطی الاشتقاق من الرحمه، و هی صفه موجوده فیهم، خافوا أن یکون المعبود الذی یدلهم علیه من جنسهم، فأنکروا و قالوا:

و ما الرحمن؟ لما لم یکن من شرط کل کلام أن یفهم معناه، و لهذا قال تعالى‏ (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) لما کان اللفظان راجعین إلى ذات واحده، فما أنکره من أنکره- أعنی الاسم الرحمن- إلا للقرب المفرط، فإنه لا أقرب من الرحمه إلى الخلق، و ما ثمّ أقرب إلیهم من وجودهم، و وجودهم رحمه بلا شک، و لم یقروا باللّه إلا لما یتضمنه هذا الاسم من الرحمه و القهر، فعلم، و جهل الرحمن، فتخیلوا فی الرحمن أنه شریک للّه الذی یقرون به و یتزلفون إلیه، فأنکروا ذلک و لم ینکروا ذلک فیمن نصبوه إلها، لأنهم عالمون بأسماء من نصبوهم آلهه من دون اللّه، فعلموا بأسمائهم أنهم لیسوا فی الحقیقه فی الألوهه مثله، و قد دلهم صلّى اللّه علیه و سلم بالسجود للرحمن على عباده غیب، فقالوا «وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً» فزادهم هذا الاسم نفورا لجهلهم به، فإنهم لا یعرفون إلا اللّه الذی بیده الاقتدار الإلهی و الأخذ الشدید،

و هو الکبیر عندهم المتعالی، فهم لذلک یعبدون الشرکاء لیقربوهم إلى اللّه زلفى و یشفعوا عنده، و أخطأ الکفار حیث رأوا أن الرحمن یناقض التکلیف، و رأوا أن الأمر بالسجود تکلیف، فلا ینبغی أن یکون السجود لمن هو هذا الاسم الرحمن، لما فیه من المبالغه فی الرحمه، فلو ذکره بالاسم الذی یقتضی القهر، ربما سارع الکافر إلى السجود خوفا، کما صدر من الجبار عند رسول اللّه صلّى اللّه علیه و سلم من رؤساء الجاهلیه حیث قال له: یا محمد اتل علیّ ممّا جئت به حتى أسمع؛ فتلا علیه (حم السجده) فلما وصل إلى قوله تعالى‏ (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُکُمْ صاعِقَهً مِثْلَ صاعِقَهِ عادٍ وَ ثَمُودَ) و هما من العرب،و حدیثهما مشهور عندهم بالحجاز، فلما سمع هذه الآیه ارتعدت فرائصه، و اصفر لونه، و ضرط من شده ما سمع و معرفته بذلک،

و قال: هذا کلام جبار؛ فما زادهم نفورا إلا اقتران التکلیف بالاسم الرحمن لجهلهم به، و لو علم هذا الجاهل أن أمره تعالى بالسجود للرحمن لا یناقض التکلیف، و إنما یناقض المؤاخذه و یزید فی الجزاء بالحسنى لبادر إلى ذلک، کما بادر المؤمن، کما أن الکفار ما علموا فی الغیب إلا إلها واحدا، قال اللّه لنبیه صلّى اللّه علیه و سلم‏ (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَیًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏) فتعجبوا من ذلک غایه العجب، لأنهم تخیلوا أن مسمى الرحمن لیس هو اللّه، و أن لکل واحد الأسماء الحسنى، و ذلک لمّا أعمى اللّه بصائرهم، و کثّف أغطیتهم، فلم یعقلوا عن اللّه ما أراد بما أنزله- و هذه السجده للمؤمن تسمى سجده الامتیاز فإنه یسجدها عند ما یتلو لیمتاز عن الکافر المنکر لاسمه الرحمن، و یقع الامتیاز بین الاسم الرحمن و بین العارفین به یوم القیامه بالسجود الذی کان منهم عند التلاوه.

[سوره الفرقان (۲۵): الآیات ۶۱ الى ۶۳]

تَبارَکَ الَّذِی جَعَلَ فِی السَّماءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِیها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِیراً (۶۱) وَ هُوَ الَّذِی جَعَلَ اللَّیْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَهً لِمَنْ أَرادَ أَنْ یَذَّکَّرَ أَوْ أَرادَ شُکُوراً (۶۲) وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِینَ یَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (۶۳)

[عباد الرحمن‏]

اعلم أن للّه عبادا من حیث اسمه الرحمن، و هو قوله تعالى‏ «وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِینَ یَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً» و ذلک من أثر الوقار، الذی هو من الوقر، و هو الثقل، و إذا حصل الثقل ضعف الإسراع و الحرکه، فسمى ذلک السکون وقارا أی سکون عن ثقل عارض لا عن مزاج طبیعی، فإن السکون الکائن عن الأمر الذی یورث الهیبه و العظمه فی نفس الشخص یسمى وقارا و سکینه، و السکون الطبیعی الذی یکون فی الإنسان من مزاجه لغلبه البرد و الرطوبه على الحراره و الیبس لا یسمى وقارا، إنما الوقار نتیجه التعظیم و العظمه، و هذا لا یکون إلا إذا تجلى لهم الحق فی جلال الجمال‏ «وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ» الجاهل من أشرک باللّه، خفیا کان الشرک أو جلیا «قالُوا سَلاماً» فلو أجابوهم لانتظموا معهم فی سلک الجهاله، فإن کل إنسان ما یکلم إنسانا بأمر ما من الأمور ابتداء أو مجیبا، حتى ینصبغ‏ بصفه ذلک الأمر الذی یکلمه به، کان ذلک ما کان، فلم یتمکن لهؤلاء أن یزیدوا على قولهم سلاما شیئا.

[سوره الفرقان (۲۵): آیه ۶۴]

وَ الَّذِینَ یَبِیتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِیاماً (۶۴)

شغلهم هول المعاد عن الرقاد، فعاملوا الحق بالتعظیم و الإجلال.

[سوره الفرقان (۲۵): آیه ۶۵]

وَ الَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها کانَ غَراماً (۶۵)

أی مهلکا، فإن الغریم هو الذی لزمه الدین، و به سمی غریما، و مقلوبه أیضا الرغام، و هو اللصوق بالتراب، فإن الرغام التراب، یقال: رغم أنفه؛ إذ کان الأنف محل العزه قوبل بالرغام فی الدعاء، فألصقوه بالتراب، فیکون الغرام حکمه فی المغرم من المقلوب، فهو موصوف بالذله، لأن التراب أذل الأذلاء.

[سوره الفرقان (۲۵): الآیات ۶۶ الى ۶۷]

إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً (۶۶) وَ الَّذِینَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ یُسْرِفُوا وَ لَمْ یَقْتُرُوا وَ کانَ بَیْنَ ذلِکَ قَواماً (۶۷)

«وَ الَّذِینَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ یُسْرِفُوا» أی لم یوسعوا ما یخرج عن الحاجه «وَ لَمْ یَقْتُرُوا» لم ینقصوا مما تمس إلیه الحاجه «وَ کانَ بَیْنَ ذلِکَ قَواماً» و هو العدل فی الإنفاق، فضمروا بطونهم بالصیام للسباق فی حلبه النجاه.

[سوره الفرقان (۲۵): الآیات ۶۸ الى ۷۰]

وَ الَّذِینَ لا یَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا یَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِی حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لا یَزْنُونَ وَ مَنْ یَفْعَلْ ذلِکَ یَلْقَ أَثاماً (۶۸) یُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ یَوْمَ الْقِیامَهِ وَ یَخْلُدْ فِیهِ مُهاناً (۶۹) إِلاَّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِکَ یُبَدِّلُ اللَّهُ سَیِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ کانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِیماً (۷۰)

اعلم أنه لما لم یتمکن للتائب أن یرد علیه وارد التوبه إلا حتى ینتبه من سنه الغفله، فیعرف ما هو فیه من الأعمال التی مآلها إلى هلاکه و عطبه، خاف و رأى أنه فی أسر هواه، و أنه مقتول بسیف أعماله القبیحه، فقال له حاجب الباب الإلهی: قد رسم الملک أنک إذا أقلعت عن هذه المخالفات، و رجعت إلیه و وقفت عند حدوده و مراسمه، أنه یعطیک الأمان من عقابه، و یحسن إلیک و یکون من جمله إحسانه أن کل قبیح أتیته یرد صورته حسنه، ثم أعطاه التوقیع الإلهی، فإذا مکتوب فیه‏ «وَ الَّذِینَ لا یَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ …» الآیات، إلى قوله‏ «إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِکَ یُبَدِّلُ اللَّهُ سَیِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» و ذلک نتیجه العمل الصالح فیقع التبدیل، فیبدل اللّه سیئاته حسنات، حتى یود لو أنه أتى جمیع الکبائر الواقعه فی العالم من العالم، و هذا من الکرم الإلهی، فلا بد لطائفه من التبدیل کبیر بکبیر، و من الناس من یبدله له بالتوبه و العمل الصالح، و من الناس من یبدله له بعد أخذ العقوبه حقها منه، و سبب إنفاذ الوعید فی حق طائفه حکم المشیئه الإلهیه، فإذا انتهت المده طلبت المشیئه فی أولئک تبدیل العذاب الذی کانوا فیه بالنعیم المماثل له، فإن حکم المشیئه أقوى من حکم الأمر، و قد وقع التبدیل بالأمر فهو بالإراده أحق بالوقوع، و لو لا ما بین السیئ و الحسن مناسبه تقتضی جمعهما فی عین واحده یکون بها حسنا سیئا ما قبل التبدیل،

و مثال ذلک: شخص فی غایه الجمال طرأ علیه وسخ من غبار، فنظف من ذلک الوسخ العارض، فبان جماله، ثم کسی بزه حسنه فاخره، تضاعف بها جماله و حسنه، و لهذا وصف الذنوب بالمغفره و هی الستر، و ما وصفها بذهاب العین، و إنما یسترها بثوب الحسن الذی یکسوها به، لأنه تعالى لا یرد ما أوجده إلى عدم، بل یوجد على الدوام و لا یعدم.

و ستر اللّه هذا العلم عن بعض عباده، و أطلع علیه من شاء من عباده، و هو من علم الحکمه التی من أوتیها فقد أوتی خیرا کثیرا، و لذلک قال الحق‏ «وَ کانَ اللَّهُ غَفُوراً»– الوجه الأول- أی یستر عمن یشاء الوقوف على مثل هذا کشفا- الوجه الثانی- غفورا لذنوبهم السابقه، أی سترها عنهم، فإن اللّه تعالى إذا قبل توبه عبده أنساه ذنبه فلم یذکّره إیاه، فإنه إن ذکره أحضره بینه و بین الحق، و هو قبیح الصوره، فجعل بینه و بین الحق صوره قبیحه تؤذن بالبعد فهذا فائده النسیان، و الستر من الحق على نوعین: إما أن یستر الذنوب جمله واحده، و إما أن تبدل بحسنه فتحسن صوره تلک السیئه بالتوبه، فتظهر له حسنه، و ذلک لیسرع العبد فی الرجعه إلى اللّه‏ «رَحِیماً» بذلک الستر، رحمه به لمعنى علمه سبحانه لم یعیّنه لنا،

و التبدیل على وجوه:- الوجه الأول- اعلم أنه ما من کلمه یتکلم بها العبد إلا و یخلق اللّه من تلک الکلمه ملکا، فإن کانت خیرا کان ملک رحمه، و إن کانت شرا کان ملک نقمه، فإن تاب إلى اللّه و تلفظ بتوبته خلق اللّه من تلک اللفظه ملک رحمه، و خلع من المعنى الذی دل علیه ذلک اللفظ بالتوبه الذی قام بقلب ذلک التائب على ذلک الملک الذی کان خلقه من کلمه الشر خلعه رحمه، و واخى بینه و بین الملک الذی خلقه من کلمه التوبه، و هو قوله: تبت إلى اللّه؛ فإن کانت التوبه عامه، خلع على کل ملک نقمه کان مخلوقا لذلک العبد من کلمات شره خلع رحمه، و جعل مصاحبا للملک المخلوق من لفظه توبته،

فإنه إذا قال العبد: تبت إلیک من کل شی‏ء لا یرضیک؛ کان فی هذه اللفظه من الخیر جمیعه کل شی‏ء من الشر، فخلق من هذا اللفظ ملائکه کثیره بعدد کلمات الشر التی کانت منه، فإن الإنسان أعطی لفظا یدل على الأفراد، و أعطی لفظا یدل على الاثنین، و أعطی لفظا یدل على الکثره، فلفظه کل تدل على الکثره، فعلم أن قوله «تبت إلى اللّه من کل شی‏ء»، أنه تبت إلى اللّه من کذا، تبت إلى اللّه من کذا، تبت إلى اللّه من کذا، فلهذا خلق اللّه من کلمه الجمع ملائکه بعدد ما تعمه تلک الکلمه،

و إنما قلنا بأن الملائکه المخلوقه من کلمه الشر یخلع علیها خلع الخیر، و ترجع ملائکه رحمه فی حق هذا التائب، و یصاحب بینها و بین الملائکه المخلوقه من لفظه التوبه عن ذلک الشر، لقوله تعالى‏ «فَأُوْلئِکَ یُبَدِّلُ اللَّهُ سَیِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» فجعل التبدیل فی عین السیئه- الوجه الثانی- من أنسأ اللّه فی أجله بعد توبته فعمل عملا صالحا بدل اللّه سیئاته حسنات، أی ما کان یتصرف به من السوء عاد یتصرف فیه حسنا، فبدّل اللّه فعله بما وفقه إلیه من طاعته و رحمته، و غفر له جمیع ما کان وقع منه قبل ذلک، و لم یؤاخذه بشی‏ء منه.

– الوجه الثالث- فی حق أهل الشهود الذی یرون و یشهدون الأفعال کلها للّه، فما کان من حسن أضافوه إلیه تعالى خلقا فیهم، و أضافوه إلیهم من کونهم محلا لظهوره، و إن کان سیئا أضافوه إلیهم بإضافه اللّه، فیکونون حاکین قول اللّه، فیریهم اللّه حسن ما فی ذلک المسمى سوءا بأن یریه عین ما کان یراه سیئه حسنه، و قد کان حسنها غائبا عنه بحکم الشرع، فلما وصل إلى موضع ارتفاع الأحکام، و هو الدار الآخره، رأى عند کشف الغطاء حسن ما فی الأعمال کلها، لأنه ینکشف له أن العامل هو اللّه لا غیره،فهی أعماله تعالى، و أعماله کلها کامله الحسن، لا نقض فیها و لا قبح، فإن السوء و القبح الذی کان ینسب إلیها إنما کان ذلک بمخالفه حکم اللّه لا أعیانها، فبدل اللّه سیئاتهم حسنات، و ما هو إلا تبدیل الحکم لا تبدیل العین، فمن حکم فی نفسه لنفسه، و ندم فی یومه على ما فرط فیه من أمسه، لیجبر بذلک ما فاته،

و یحیی منه بالندم ما أماته، فإذا أقامه من قبره، فذلک أوان نشره، و أوان حشره، فیبدل اللّه سیئاته حسنات، و ینقل من أسفل درجاته إلى أعلى الدرجات، حتى یود لو أنه أتى بقراب الأرض خطایا، أو لو حمل ذنوب البرایا، لما یعاینه من حسن التحویل، و جمیل صور التبدیل، فیفوز بالحسنیین، و هنالک یعلم ما أخفى له فیه من قره عین، ففاز فی الدنیا باتباع الهوى، و فی الآخره بجنه المأوى، فمن الناس من إذا حرم رحم، و جوزی جزاء من عصم، فجزاء بعض المذنبین أعظم من جزاء المحسنین، و لا سیما أهل الکبائر، و المنتظرین حلول الدوائر، و ذلک فضل اللّه یؤتیه من یشاء.

لما نزلت هذه الآیه قال وحشی قاتل حمزه رضی اللّه عنه: و من لی بأن أوفق إلى العمل الصالح الذی اشترطه علینا فی التبدیل؟ فجاءه الجواب: (إِنَّ اللَّهَ لا یَغْفِرُ أَنْ یُشْرَکَ بِهِ وَ یَغْفِرُ ما دُونَ ذلِکَ لِمَنْ یَشاءُ) فقال وحشی: و ما أدری هل أنا ممن شاء أن یغفر له أم لا؟ فجاءه الجواب: (یا عِبادِیَ الَّذِینَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَهِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِیعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ) فلما قرأ وحشی هذا قال: الآن فأسلم، و لهذا قال حاجب الباب الإلهی و هو الشارع [إن التائب من الذنب کمن لا ذنب له‏] فیبدل سیئاته حسنات بالتوبه و العمل الصالح.

[سوره الفرقان (۲۵): الآیات ۷۱ الى ۷۲]

وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ یَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (۷۱) وَ الَّذِینَ لا یَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا کِراماً (۷۲)

«وَ الَّذِینَ لا یَشْهَدُونَ الزُّورَ» شهاده الزور المیل إلى الباطل عن الحق، فإن الزور هو المیل‏ «وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا کِراماً» أی لم ینظروا لما أسقط اللّه النظر إلیه، فلم یتدنسوا بشی‏ء منه، فمروا به غیر ملتفتین إلیه‏ «کِراماً» فما أثر فیهم، فإنه مقام تستحلیه النفوس، و تقبل علیه للمخالفه التی جبلها اللّه علیه، و هذه هی النفوس الأبیه أی التی تأبى الرذائل،فهی نفوس الکرام من عباد اللّه، و التحقوا بهذه الصفه بالملإ الأعلى، الذین قال اللّه فیهم: (بِأَیْدِی سَفَرَهٍ کِرامٍ بَرَرَهٍ) فنعتهم بأنهم کرام، فکل وصف یلحقک بالملإ الأعلى فهو شرف فی حقک.

[سوره الفرقان (۲۵): الآیات ۷۳ الى ۷۷]

وَ الَّذِینَ إِذا ذُکِّرُوا بِآیاتِ رَبِّهِمْ لَمْ یَخِرُّوا عَلَیْها صُمًّا وَ عُمْیاناً (۷۳) وَ الَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّیَّاتِنا قُرَّهَ أَعْیُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِینَ إِماماً (۷۴) أُوْلئِکَ یُجْزَوْنَ الْغُرْفَهَ بِما صَبَرُوا وَ یُلَقَّوْنَ فِیها تَحِیَّهً وَ سَلاماً (۷۵) خالِدِینَ فِیها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً (۷۶) قُلْ ما یَعْبَؤُا بِکُمْ رَبِّی لَوْ لا دُعاؤُکُمْ فَقَدْ کَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ یَکُونُ لِزاماً (۷۷)

رحمه من الرحمن فى تفسیر و اشارات القرآن، ج‏۳، ص: ۲۵۸

 

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

Back to top button
-+=